أخيرا وبعد أن فرغت جميع الحجج والأعذار أمام أنصار الحكم لتسويغ حكم الاستبداد ، وكفوا نهائيا عن ترديد نغمة أن ليس في الامكان أبدع مما كان . لم يتبق لهم سوى ترويج مقولة عدم وجود بديل عن الرئيس في الوقت الراهن . هذه المقولة الزائفة لا يتحمل مسؤوليتها من أطلقها فقط ، بل تتشارك رموز النخب وقادة المعارضة في حمل عارها وشؤمها . وتبقى المسؤولية في النهاية معلقه في رقاب رجال السياسة وأقطاب الفكر في بلادنا ، حتى يتم تفنيدها ودحضها وتقديم البديل الموضوعي والمكافئ للفرصة التاريخية الراهنة . فهل تنجح رموز النخب المصرية هذه المرة في الإجابة عن السؤال الكبير الذي عجزوا في الإجابة عنه طوال العقود المنصرمة وحتى الآن وهو : لماذا نجح الحكم الاستبدادي دائما في فرض إرادته واستئثاره الطويل بالسلطة رغم فساده وضعفه .. فيما فشل الاصلاحيون الوطنيون في مسعى التغيير والإصلاح، رغم سلامة مطالبهم وعدالة قضيتهم ؟ .. المؤكد أن ثمة أسبابا أخرى بالغة الحرج تخص المعارضين أنفسهم هي التي جعلتهم في هذا الوضع المشين ، بغض النظر عن قمع حركات المعارضة الوطنية والإسلامية ، والتنكيل بها عبر قوانين الطوارئ والتدابير الاستثنائية بحقها . وهذه الأسباب تعود لمسلك المعارضين أنفسهم ، وفشل أدائهم السياسي ، وعجز رموز النخب في تنظيم حركتهم وزيادة فاعليتهم وتقديم حلول بديلة للواقع المتردي والبالغ السوء . المشهد السياسي الراهن في مصر يظهر صراعا مريرا بين طرفين كلاهما ضعيف ومأزوم . فثمة حكم استبدادي تجاوزه الزمن يتشبث بالسلطة ويستميت للبقاء فيها بكل الحيل (غير المشروعة) لتأجيل نهايته المحتومة ، ويستمد جبروته (الزائف) من ضعف المعارضين وقلة حيلتهم . ونخب وطنية معارضة تراوح مكانها وتعيد تكرار أخطائها ، تتكون من تيارات مشتتة وقوى مكبلة وأحزاب كرتونية (ديكورية) خارج الخدمة ومنعزلة عن محيطها . الأمر الذي جعل منها نخب جامدة عاجزة عن التفاعل مع الأحداث وحركة التاريخ ، حتى باتت عبئا على الشارع الذي غابت عنه بالكلية ، ولم تتفاعل مع نبضه وأشواقه على النحو المرتجى منها . ومن العجيب أنه في الوقت الذي تشكو فيه المعارضة من استبداد النظم الحاكمة ، وتنتقد بمرارة تهميش دورها وإقصائها عن عملية صنع القرار السياسي ، نراها تمارس هي ذاتها بعض أنواع الاستبداد والإقصاء فيما بينها ، وبدا ذلك فيما كنا نراه من تراشق الأحزاب والأيديولوجيات ، وتلاسن التيارات الفكرية المختلفة التي وصلت في أحيان كثيرة إلى حد التشاحن والسباب ، وفيما نراه كذلك في سجالات الكتاب والمفكرين ، التي تطفو على السطح كالبالون الفارغ في صورة زوبعات إعلامية مصطنعة وجوفاء ، من دون تأثير يذكر على المستويين الرسمي أو الشعبي ، فأصبحنا نسمع جعجعة ولا نرى طحنا ، وأمسينا على (صداع) الأيديولوجيات بين شموليات فكرية ويقينيات مطلقة ، وجدل هامشي عقيم خارج حسابات السلطة واهتمامات الجماهير ، وخطاب تفكيكي إقصائي لأحزاب وتيارات مهمشة ونخب معزولة تتبنى مواقف راديكالية وان تلبست بثياب الحداثة و التنوير . فهذا (قومجي) ينادي بأفكار عتيقة عفى عليها الزمن ، وذاك (اسلاموي) يدعو إلى الماضوية والتعصب والتخلف ، وهذا (علماني) خائن للدين والوطن ، وذاك (ليبراليي) متغرب مشكوك في هويته .. وكانت محصلة هذا المشهد الهزلي خسارة كبرى للوطن ، وفائدة قصوى للاستبداد الذي لا يعنيه هذا الجدال الفارغ من قريب أو بعيد ، بل هو في الحقيقة يحبذ استمرار هذه المساخر الهزلية ، ويشجع على استمرارها واستغلالها لصرف الأنظار عن ممارساته وأفعاله . هذا المسلك الحاصل والمتكرر منذ عقود بين النخب هو سبب الأزمات والنكبات ، وعلة تأبيد الطغاة وتمكينهم .. وعند التعرض لإصلاح البلاد وتقويم السياسات .. يتوجب علينا أولا مراجعة صلاحية هذه النخب المتكلسة والمعزولة ، التي تطالب بالإصلاح من دون استحقاق ، والتي لا تكف عن ترديد شعارات هي أول من يتجاوزها عمليا ، والطنطنة بمقولات هي آخر من يطبقها ممارسة وفعلا .. ولذلك فهي مطالبة قبل غيرها بإنجاز إصلاحات فكرية وحركية داخل صفوفها ، وفي حاجة ماسة إلى منهج مغاير يناسب زمن التحديات الصعبة . وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها أن الاستبداد ليس هو اكبر نكبات بلادنا ولا الفساد هو اخطر أزماتها .. وإنما نكبتنا الأكبر و أزمتنا الأخطر في عجز قوانا الوطنية أمام واقعنا المتردي وانسداد طرق الإصلاح أمامها ، وفقدان بلادنا حضور نخب وطنية وزعامات شعبية تتقدم الصفوف وتقود الجماهير نحو التغيير . فلم تفرز نخبنا الوطنية حتى الآن شخصيات سياسية رائدة تستطيع تحريك المياه الراكدة وإيقاظ الشعوب من غفلتها ، في ظل فقر حاد في الأفكار والمخيلات ، وانعدام تام للمواهب السياسة القادرة على إقناع الجماهير واستيعاب المتغيرات .