لعل القارئ كان يتابع كلام النخبة عن الدولة المدنية المنتظرة، التى يبشرون بها ويتباكون على عدم قيامها إلى الآن، ولعله فهم – كما فهم الجميع- أن الدولة المدنية دولة مؤسسات يحكمها المدنيون- لا العسكريون- والصوت الأعلى فيها للقانون، وتعمل مؤسساتها على تحقيق المساواة والحرية لجميع مواطنيها. لكن يبدو أننا فهمنا خطأ، وأن مفهوم الدولة المدنية عند النخبة المصرية غير مفهوم الدولة المدنية عند نُخَبِ الشرق والغرب؛ إذ وضح جليًا أن مقصودهم بالدولة المدنية: أنها الدولة التى لا يصلى فيها الرئيس فى العلن وأمام الكاميرات، بل عليه أن يتخفى بصلاته.. أما فى العلن فلا ينبغى أن يظهر إلا وهو يستمع الموسيقى أو يلعب الإسكواش، أما الصلاة – ذلك العمل الرجعى – فإظهاره مُنافٍ للدولة المدنية، كما ينافيها أن يستخدم الرئيس فى خطاباته وأحاديثه نصوصًا من القرآن الكريم؛ فإن كان لابد مقتبسًا، فليقتبسْ من أقاويل "كارل ماركس" وفولتير و"روسو" ونحوهم من قادة الفكر العالمى، كما أنه لا يمكن وصف الدولة بالمدنية ما دامت زوجة الرئيس محجبة ولا تظهر مساحات كافية من جسدها؛ لأنها فى هذه الحالة تعبر عن الدولة الدينية لا الدولة المدنية. والدولة المدنية عند النخبة هى التى يُسمح فيها لأى مواطن، كائنًا من كان، بإهانة الرئيس إهانات مباشرة - مهما بلغت- ويُسمح فيها لجميع الصحفيين والإعلاميين بالافتراء عليه، واختلاق الأكاذيب السمجة لتشويه صورته أمام الرأى العام، ثم لا يكون من حق الرئيس اللجوء إلى القضاء؛ لأن ذلك مصادرة لحرية الصحافة وتكميم للأفواه الوطنية! وظهر أيضًا أن دولتهم المدنية لا اعتبار فيها لمقدسات الأمة وشعائرها؛ فيباح لجميع الناس الانتقاص والاستهزاء بالله أو الرسل أو الدين؛ لأن ذلك يندرج تحت حرية الرأى والتعبير، لكن فى الوقت ذاته يمنع منعًا باتًا انتقاد أى ممثل أو مخرج أو روائى بسبب أى عمل يقدمه، مهما كان ذلك العمل؛ لأن المقدس الوحيد فى دولتهم المدنية هو "الإبداع"، حتى لو كان هذا الإبداع نقنقة ضفادع أو نعيب غراب! وفى دولتهم المدنية يحظر استخدام المساجد فى أى أحاديث سياسية؛ لأنه لابد من فصل الدين عن السياسة، لكن لا بأس أن تقام الندوات وتؤسس الأحزاب من قاعات الكنائس وبعد إقامة القداس. وفيها – كذلك- لا يباح للمذيعة الظهور بحجابها على تليفزيون الدولة، ووقوع هذا بعد حظره لعقود - هو نكسة مدنية خطيرة، كما أن على الدولة المدنية أن تحارب النقاب فى الجامعات وفى نوادى الشرطة والجيش؛ لأنه مظهر من مظاهر الردة الحضارية، بينما تلتزم بالمحافظة على حرية ارتداء البكينى؛ لأنه عنوان الحداثة والتحضر. أما آخر إبداعاتهم فهو: أن الدولة المدنية لا يصلى فيها "المحافظ" صلاة الفجر بالجلباب الأبيض؛ لأن هذا علامة على ثيوقراطية الدولة. هذه دولتهم المدنية!، فتعالوا نبكى ونلطم الخدود؛ لأن مصر عاجزة عن الارتقاء والوصول إليها! [email protected]