سبحان الله مغير الأحوال ومبدل المآل.. هل تتخيل أن يكون الأزهر الشريف، هذا الصرح العلمي العظيم، الذي يعد أكبر حدث في تاريخ الإسلام، وأعظم معاهد الهداية على مر الزمان، أن يكون الذي وجهه هذه الوجهة، وصنع منه هذه المكانة، رجل كان في أصله يهودي على غير ملة الإسلام؟! نعم وبكل اندهاش وتعجب.. فمن صنع هذه المدرسة العملاقة، التي ظلت على مدار أكثر من ألف عام شامخة عالية رفيعة كريمة، تدفع بالعلماء، وتخرج الدعاة الذين أرسوا معالم الهداية والنور في جنبات الدنيا، رجل كان في أصله يهودي.. لكنه اهتدى للإسلام وصار رفيع المكانة علمًا وقدرا جاها.. فما الحكاية وما القصة؟! إنه الوزير الأجل كما كان يلقبه الخليفة الفاطمي العزيز بالله، واسمه (أبو الفرج يعقوب بن بوسف بن كلّس) واسمه يدل على ذميته، وكان يهوديا نشأ في بغداد وغادرها في شبابه إلى الشام، حيث عمل بالتجارة ولما أثقلته الديون وعجز عن أدائها، فر إلى مصر في عهد (كافور الإخشيد) واتصل به وصار من رجاله، وأقام ببعض المهام المالية بخبرة وبراعة، وكثرت أمواله حتى أعجب به كافور، ولما بلغه أنه قال عنه: ( لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا) رأى الإسلام أفضل الطرق لتحقيق طموحاته، فدرس قواعد الإسلام وأصوله سرا، ثم أعلن إسلامه ، حتى علت مراتبه وقويت أواصره واشتهر أمره وقويت منزلته، ولكن بعض وزراء البلاط خافوه، ولم يعجبهم تقدمه ولم يرق لهم نفوذه، وتوجسوا من مستقبله شرا، فدسوا له الدسائس وأوغروا عليه الصدور، فنظر في أمره وعلم أنه أوقع به، ففر هاربا إلى المغرب عام (357) ه، ولحق بالمعز لدين الله الفاطمي، والذي كان في هذا الوقت يتجهز لغزو مصر، ولقيه المعز بحفاوة كبيرة، وقدر فيه مواهبه وملكاته، واستعلم منه أنباء مصر وأحوالها ومواطن قوتها ومكامن ضعفها، وظل معه حتى تم فتح مصر، فولاه المعز الخراج والأموال والحسبة والأحباس وسائر الشؤون المالية، وعهد إليه بشؤونه الخاصة، ولما توفي المعز عام (365)ه، تولى بعد ولده العزيز بالله الذي كانت منزلة ابن كلس عنده أفضل من منزلته في عهد أبيه حتى أنه لقبه ب(الوزير الأجل) وصار أقوى رجل في الدولة. قال عنه الذهبي: "وكان عالي الهمة، عظيم الهيبة، حسن المداراة، داهية، ماكرا، فطنا، سائسا، من رجال العالم فكان من أنبل الوزراء، وأحشمهم، وأكرمهم، وأحلمهم " لم يكن (ابن كلس) كما ذكر عنه وزيرًا وسياسيًا فقط، بل كان عالما وأديبا كبيرًا، محبا للعلم والعلماء، وكان يَعقد بداره مجالس علمية وأدبية دورية، ينتظم في سلكها أكابر الفقهاء والأدباء والشعراء، ويُشرف عليها بنفسه ويهتم بروادها ويغدق عليهم العطاء، ولم يكن محبًا للعلم فقط، بل كان من المؤلفين والمصنفين حيث وضع كتابًا في القراءات، وكتابا في الفقه، وكتابًا في آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتابا في علم الأبدان والصحة، ومختصرا في فقه الشيعة، وكان يُناظر العلماء ويقرأ كتبه بالأزهر الشريف، وضرب بسهمه في الإحسان، فقد كانت له موائد منصوبة دائما، معدة للوافدين، وكان كثير الصلات والإحسان، وكان علما من أعلام عصره.. ولما مرض جزع عليه العزيز بالله، وأخذ يعوده حتى مات، فحزن عليه حزنا كثيفا، وأمر أن يجهز جهاز الملوك وخرج من القصر إلى داره في موكب مهيب، حتى وري التراب، وكان الخليفة يبكي عليه بدمع غزير، واهتم واحتجب في دارة (3) أيام لا يأكل على مائدته وعم الحزن كل مكان. أما قصة (ابن كلس) مع الأزهر، فقبل أن نرويها، لابد أن ندفع ظنًا خاطئا يظنه بعض الناس، حتى الأزهريين أنفسهم يظنونه، وهو أن الأزهر في أساسه بُني وأُعد لكي يكون منارة علمية ومدرسة معرفية لنشر المذهب الشيعي، ولما جاء صلاح الدين تحول للدراسة السنية، وهذا ظن خطأ، فالأزهر حينما أنشيء لم تكن الغاية من إنشائه أن يكون جامعة أو معهدا علميا كما صار فيما بعد، وإنما أنشيء ليكون مسجدًا رسميا للدولة الفاطمية في حاضرتها الجديدة، ومنبرًا لدعوتها الدينية، ورمزًا لسيادتها الروحية، ومضت على بناء الأزهر عدة أعوام، وفجأة دفع إلى هذه الغاية دفعا عجيبا بلا سابق ترتيب أو تعمد أو قصد، حينما جلس القاضي القيرواني في أواخر عهد المعز بالجامع الأزهر، وقرأ مختصر أبيه في فقه أهل البيت، في جمع حافل من العلماء والكبراء، وكانت هذه أول حلقة علمية بالجامع الأزهر، وتوالت بعدها حلقات أخرى لبني النعمان وهم من أجل علماء المغرب، وألسنة الدعوة الفاطمية، وعمادها الروحي، لم يكن مضى على الأزهر ثلاثة أعوام حتى كانت هذه الدروس تشكل نشاطا علميا عاديا قد يحدث في أي مسجد، حتى جلس ابن كلس في رمضان عام (369)ه وقرأ على الناس كتابا ألفه في فقه الشيعة وهو الكتاب المعروف ب(الرسالة الوزيرية) وكان الناس يلتفون حوله ويهرعون إلى سماعها، حتى جاء تفكيره بعد ذلك في اتخاذ الجامع الأزهر معهدًا للدراسة المنظمة المستقرة، فاستأذن الخليفة العزيز بالله في أن يُعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس، يحضرون مجالسه ويلازمونه ويعقدون مجالسهم بالأزهر في كل جمعة وكان عددهم (37) فقيها ورتب لهم العزيز أرزاقًا وجرايات شهرية حسنة، وأنشأ لهم دارًا للسكنى بجوار الأزهر وكرمهم وشرفهم وأعطاهم كذلك (ابن كلس) من ماله الخاص، وكانت هذه الخطوة هي البداية الأولى للجامعة الازهرية، والانطلاقة الكبرى للمعهد العلمي العريق.. كل هذا كان بفضل الوزير ابن كلس وبعد نظره وحبه للعلم.