ذكرت فى المقال السابق أن مصر ليست محبوبة أولادها وحدهم، وإنما هى معشوقة أبناء العالمين العربى والإسلامى، يدرك هذا من المصريين من يغترب عنها ويعيش بعيدا عن أرضها، إذ يلقى من الثناء والامتنان والابتهال لمصر من العرب ومن غيرهم ما تقشعر معه الأبدان، وتفيض منه الأعين بالدمع الهتنان. كما أن الأحداث الأخيرة كشفت عن حب عميق تمتلئ به قلوب المصريين لبلدهم - وإن بدا الأمر على العكس من ذلك إبان عهد الخائن المخلوع - ودماء الشهداء والنوم فى العراء والاستعداد التام لافتداء الوطن الحبيب بالغالى والنفيس، كلها مظاهر تدل على حب المصريين الجارف لوطنهم، الذى لن يجدوا له مثيلا مهما شرقوا أو غربوا. واعتقادى أن ذلك الحب الجارف لمصر من أبنائها ومن غير أبنائها يرجع لعدة أسباب: أولها: تشريف الله تعالى لها، بالحديث عنها فى كتابه الحكيم أكثر من ثلاثين مرة، خمس منها بصورة مباشرة، والباقى بصورة غير مباشرة، حيث عبر عنها بالأرض فى أكثر من موضع (اجعلنى على خزائن الأرض)، (وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض)، كما عبر عنها بالبلاد (وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا فى البلاد)، وأقسم بأجزاء منها (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين)، وقدّس بعض أماكنها (وهل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى)، بل إن نهرها الخالد ذكره القرآن بلفظ "اليم" وهو من أسماء البحر (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم...)، للإشارة إلى أنه يجمع بين مزايا الأنهار وخصائص البحار، يقول البقاعى (وعرفه وسماه يماً - واليم: البحر - لعظمته على غيره من الأنهار بكبره وكونه من الجنة، وما يحصل به من المنافع)، ولكل موضع من هذه المواضع أسراره، التى أسأل الله تعالى أن يعين على الكشف عن بعضها فى دراسة مستقلة، أتتبع فيها حديث القرآن عن مصر وشعبها. ثانيا: تشريف النبى صلى الله عليه وسلم لمصر ووصايته بأهلها، فعن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيرا، فذلك الجند خير أجناد الأرض، فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة)، وعن أبى ذر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحماً)، ومما أره داخلا فى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مصر ما يحدث اليوم من غير المصريين من تتبع أخبارها والاهتمام بشئونها والسؤال عن مجريات الأحداث فيها بدرجة تفوق ما يحدث من بعض المصريين. ثالثا: جميل مصر الذى يطوق عنقى الأمتين العربية والإسلامية، والذى لا ينكره إلا جاحد أو مكابر، وهو جميل متنوع، فمنه الدينى ومنه العسكرى ومنه العلمى ومنه الاجتماعى ومنه الاقتصادى ومنه كذلك السياسى، فليس ثمة بلد عربى أو إسلامى إلا وكان لمصر يد بيضاء عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن ثم كان حبها متجذرا فى نفوس أبنائها وغير أبنائها، وأذكر أننى وبعض الزملاء نزلنا ضيوفا على قبيلة عربية فوجدنا اهتماما بالغا، حيث اجتمعت لنا القبيلة كلها، وأقيمت مأدبة عشاء على شرفنا، ثم أخذ شيخ القبيلة فى الحديث عن مصر وفضلها العلمى على قبيلته وعلى غيرها من القبائل، ثم تحدث عن النصر العسكرى الذى حققته مصر فى العاشر من رمضان وكيف أنه كان سببا فى أن يرفع العرب رءوسهم، ثم جاء ذكر عبدالناصر والسادات وما يتميز به هذا وما يتمتع به ذاك، ثم ودعونا بمثل ما استقبلونا به. وليس هذا حال العامة فقط، بل هو حال المنصفين من المثقفين والسياسيين وغيرهم، واسمعوا إن شئتم كلام وزير خارجية السعودية عن مصر وقدرها، واقرءوا كذلك ما كتبه الأستاذ محمد الرطيان فى جريدة الخليج العربى عن مصر ودورها، فى مقالته الرائعة: مصر التى كانت وعادت. هذه ثلاثة أسباب كلية تحيط بعدد لا حصر له من الأسباب الجزئية، التى تجعل من مصر أنشودة المصريين، ومعشوقة العرب والمسلمين.