لا أعتقد أن حافظ إبراهيم قد بالغ عندما قال: كم ذا يكابد عاشق... ويلاقى فى حب مصر كثيرة العشاق ذلك أن حب مصر ليس كلمة تقال بقدر ما هو براهين تقدم وأفعال، كما أن مصر ليست محبوبة أولادها وحدهم، بل هى معشوقة أبناء العالمين العربى والإسلامى، وقد لمست هذا بنفسى عندما اغتربت عن مصر واختلطت بكثير من الإخوة العرب وغير العرب فى البلد الذى أعمل فيه، والذى عدت إليه للتو بعد أن قضيت إجازتى السنوية فى بلدى وبين أهلى وعشيرتى، عايشت خلالها انتخابات الرئاسة وما صاحبها وما تلاها من أحداث، ثم كانت الخاتمة بشهر رمضان المعظم وما شهده من قرارات أعادت للثورة المصرية روحها، وجددت الأمل فى نجاحها. وكنت أثناء وجودى أتنقل بين المساجد والمحافل المختلفة متحدثًا حول (حب مصر وكيف يكون؟)، مقسمًا هذا الموضوع إلى ثلاثة محاور، أولها: التأصيل الشرعى لحب الوطن وأنه من صميم الدين، الثانى: أسباب حبنا وحب غيرنا لمصر، أما الثالث والأخير وهو بيت القصيد، فهو :الوسائل التى نترجم من خلالها عن حبنا لوطننا.. ولتسمح لى جريدة "المصريون" بنشر هذا الموضوع عبر صفحاتها، عساه يجد من قرائها المحترمين من ينتفع به أو يزيد فيه أو يوجه صاحبه إلى بعض الجوانب التى تزيد من نفعه إذا خرج فى إصدار، أو ينصح بالعدول عنه. وفيما يخص التأصيل الشرعى لحب الوطن، يجدر بى أن أوضح أنّ العلماء قد عرفوا الوطن بأنه: أرض محددة بحدود يعيش عليها شعب، وقد ضرب لنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة فى حب الوطن(أرضًا وشعبًا)، ويعد فعله صلى الله عليه وسلم وكلامه فى ذلك تأصيلاً شرعيًا لهذه المسألة. ففى جانب حبه للأرض التى ولد عليها وترعرع فيها، نذكر أنه صلى الله عليه وسلم عاش فى مكة 53 عامًا قبل الهجرة، مقسمة قسمين: 40 قبل البعثة، ليس فيها إلا الود والاحترام والتقدير والثناء عليه وعلى أفعاله بل والنزول عند رأيه، وحادث وضعه الحجر الأسود فى مكانه بالكعبة برهان واضح على ذلك، و13 بعد البعثة، فيها من الإيذاء والاتهامات والحصار والمقاطعة له ولأتباعه ما هو معلوم.. ومع ذلك لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم محبًا للخروج من مكة، ولم يكن تواقًا إلى الهجرة عنها، ولم يدفعه إلى ذلك سوى ثلاثة أمور، أولها: أمر الله تعالى الذى ما كان له أن يتخلف عنه، الثانى: أن مصلحة الدعوة أصبحت تفرض البحث عن مكان آخر بعد استنفاد كل الوسائل وتجربة جميع الأساليب، الثالث: أن أهل مكة أنفسهم لم يعد عندهم رغبة فى بقائه بينهم، وهذا ما يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: (والله يا مكة، إنك لأحب البلاد إلى الله، وإنك لأحب البلاد إلى، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت). وفى جانب حبه صلى الله عليه وسلم للناس الذين كانوا يعيشون على هذه الأرض، نذكر أن إيذاء المشركين (معظم أهل مكة) لرسول الله صلى الله عليه وسلم– على شدته وتنوعه – لم يؤثر على حبه لهم، ولم يقلل من شفقته عليهم، وبرهان ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه أبدًا داعيًا عليهم، ولم يأمر ملك الجبال الذى أرسله الله إليه بعد عودته من رحلة الطائف أن يطبق عليهم الأخشبين (جبلان محيطان بمكة) ويريحه منهم، بل قال كلامًا يدل على شدة حبه لهم ومدى حرصه عليهم (دعهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله)، بل إنه كان أكثر وداعة وأرهف حسًا وأكثر حبًا عندما قال لمن آذوه بعد الفتح: اذهبوا فأنتم الطلقاء. كما تجدر الإشارة إلى أن روعة استقبال أهل المدينة لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولصاحبه ومن قبله للمهاجرين لم تنسهم مكة أبدًا، حيث اشتد بهم الألم وأصابتهم الحمى واستبد بهم الحنين إلى مكة وأرضها، وأخذوا ينشدون الأشعار فى حبها، مما دفع النبى صلى الله عليه وسلم إلى أن يرفع يديه داعيًا (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد).