لأول مرة نستطيع القول بأن هناك ملامح اقتصاد إسلامي بمصر .. بل لا نبالغ بأننا نستطيع القول الآن بأن هناك اقتصاد مصري بالمعنى المتعارف عليه ، فالاقتصاد المصري في الماضي وخاصة خلال حقبة ما قبل ثورة 25 يناير كان بمثابة اقتصاد أفراد وليس اقتصاد دولة .. حتى امتلك قلة من الأفراد كافة مفاصل الاقتصاد وأصبحوا يتنافسون مع قوة الدولة نفسها في أنشطة وقطاعات معينة، على رأسها الحديد والنسيج والسيارات وغيرها، تلك الصناعات التي تحولت مراكز الثقل فيها من الدولة لأفراد فجأة وبدون مقدمات .. إلا إن لسان الحال ليقول بأن الرئيس الجديد بحكومته الجديدة وبمسارهما تجاه اقتصاد إسلامي أمرا لا يقبل التشكيك، وهو مدعاة للفخر بهويتنا الإسلامية، بل ويأتي بعد تأكد المجتمع الدولي بأن الاقتصاد الإسلامي هو خيار مفضل للنظام الرأسمالي الذي سبب الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي تسببت في خسائر فادحة للعالم الغربي. ولكن كيف يمكن أن تتحول مصر بعناصرها الرأسمالية الراسخة على مدى السنوات الطويلة إلى نظام إسلامي يعود بالخير والرفاهية على مصر والمصريين ؟ فالتباينات والتغيرات والإلغاءات المطلوبة كثيرة ومتعددة ومتنوعة وقد تصطدم مع كثير من الجذور المصرية .. فهناك سياحة تقوم على عناصر غير إسلامية، وهناك شواطئ وهناك ملاهي وهناك فنادق ودور للسينما وهناك اختلاط حتى الأعماق في الجامعات والمدارس وغيرها الكثير والكثير، كما أن هناك أقباط ومسلمين وهناك أجانب مقيميون وهناك صناعات تمويلية ربوية وهناك صناعات تتداخل فيها عناصر غير إسلامية .. إن محاولة الاقتراب من هذه الجذور وفرض واقع مغاير عليها قد يتسبب في فوضى وفتن لا تنتهي .. ولكن يوجد بالنموذج الخليجي أفكار ومعالجات نجحت نجاحا باهرا، على الأقل في فض عناصر الاشتباك الظاهري داخل هوية الاقتصاد الإسلامي .. من أبرز هذه العناصر الناجحة أسلوبي العزل المجتمعي والعوائل. وينبغي الإشارة إلى أنه لا يوجد في السياسة الخليجية أو الأنماط المجتمعية مثل هذه المسميات، والتي نطلقها على فلسفات مجتمعية مأخوذ بها دون أن تكون مكتوبة أو معنونة، وربما يكون هنا سر النجاح في عدم إيجاد أو القول بعنصرية سلوك أو تصرف معين. يقوم العزل المجتمعي على وجود المخيمات أو ما يعرف بالكمباوندات والتي تتواجد بكثير من المدن الخليجية وفي قلب أحيائها، وهي عبارة عن أحياء سكنية تضم الشرائح والفئات التي قد تتعرض سلوكياتها أو تصرفاتها إلى انتقادات داخل المجتمع المحافظ، فعلى سبيل المثال توجد كمباوندات تضم الأوربيين والأمريكان سواء المقيمين مؤقتا أو بشكل دائم أو الزوار أو غيرهم، بحيث تتيح لهم بيئة حياتية مقاربة لحياتهم في بلدانهم دونما وجود تعارضات مع النمط الحياتي الخليجي المحافظ، فلا هم يتعرضون بتصرفاتهم لإيذاء المواطنين الخليجين ، مثلا بشرب خمورهم أمامهم، ولا أيضا يتعرض هؤلاء الأجانب لاختلاط كامل في أماكن تواجدهم برؤية سلوكيات غير معتادة للمسلمين المحافظين .. هذه الكمباوندات تخضع لحراسة وشبه عزل بعيدا عن المجتمع المحافظ ببساطته، كما أنها تتيح بيئة مغايرة للبيئة الخارجية .. وبهذا الشكل نكون قد حافظنا على الهوية الإسلامية الوطنية وحافظنا أيضا على علاقتنا بحيث لا تكون البيئة المحلية طاردة لكل هوية غير إسلامية .. وبالنسبة للنموذج المصري، يمكن أن تتحول كثير من المناطق التي تضم مرافق سياحية أو أنشطة تتعارض مع الهوية الإسلامية إلى كمبوندات ذكية، يعزل فيها كل ما لا نريد أن نراه في شارعنا المصري عيانا بيانا. بل أن اسلوب الكمباوندات يمكن أن ينسحب ليطبق على مدن بأكملها، فالغردقة وشرم الشيخ على سبيل المثال، يمكن أن تكون نماذج صريحة كمدن سياحية عالمية .. وفي اعتقادي أننا بهذا العزل يمكن أن نبقي على السياحة كمورد اقتصادي هام وعال دونما التفكير في أي تقليصات عليها لانضباط الشارع المصري إسلاميا. وإذا كان العزل المكاني فلسفة ناجحة يمكن أن يحقق النجاح لهوية إسلامية لأنشطة اقتصادية عديدة ومتعددة، فإن العزل الحياتي بأسلوب العوائل هو نمط حياتي ناجح لحل كثير من الاشتباكات داخل المجتمع المصري دونما إثارة أي ضغينة بين الشعب المصري برجاله ونسائه وشبانه وشاباته .. فكل المصريين عندما يذهبون إلى السعودية مثلا يعجبون ولا يرون أي مشكلة في الأخذ وتطبيق أسلوب فصل العوائل عن العزاب كأسلوب حياتي واقتصادي وتجاري في البيئة المحلية .. فإقرار وجود مناطق للعوائل بالتدريج في الشواطئ وأيضا في المقاهي ثم في دور السينما ثم في المراكز التجارية والأسواق ، يمكن أن تكون بداية صحيحة ومقبولة للتخفيف من تداعيات الاختلاط السلبي .. ولابد أن ندرك أن هذه الفلسفة تؤثر إيجابا على حجم التجارة الداخلية والمبيعات داخل المجتمع السعودي، لأنه تسهل رواجا وتسويقا نظرا لتسهيل حصول العوائل أو النساء على الخدمات والمرافق. إني أعلم تماما أن البعض يرى هذا الكلام مستحيلا أو ضرب من الجنون في المجتمع المصري، ولكنه حقيقة اقتربنا من تحقيقها كثيرا، بل ينبغي أن نؤكد على ضرورة التفكير فيها لأن الاقتصاد الإسلامي به إيجابيات ينبغي استغلالها جيدا قبل التفكير فيما يمكن أن ينجم عنه من تصادمات أو اشتباكات .. وفي اعتقادي أن هذه الأفكار لا ينبغي أن تتوالد من رحم الحكومة، لأنها ستنتقد انتقادات بالغة عليها، ولكن هناك طريق خلفي مقبول شعبيا دائما وهو غير مفعل بمصر، وهو طريق "الغرف التجارية" التي لها أدوار جوهرية وفاعلة في دول الخليج التي تتبني أركان الاقتصاد الإسلامي، هذه الغرف التجارية يقودها أفراد من الشعب المصري "رؤساء وكبار رجال الأعمال في الجامعات والقطاع السياحي والصناعة والتجارة..." ولن يقول أحد بأنهم متشددون ولا إسلاميون، ولكن سيقولون أنهم تجار يرغبون في تسويق تجارتهم وسيقبل منهم أي شئ في عرض تجارتهم، ولنجعل هوية الاقتصاد الإسلامي تنطلق منهم كفلسفات تجارية .. فمن يتبنى ؟ مستشار اقتصادي الغرفة التجارية الصناعية بالرياض [email protected]