قرأت اليوم خبرا مطولا ألخّصه فى هذه السطور: "رفض منير فخرى عبدالنور الاستمرار فى حكومة الدكتور هشام قنديل وزيرا للسياحة، رضوخاً لأوامر الكنيسة: ألّا يعمل مع حكومة بقيادة رئيس إخوانى.. وشملت الضغوط أيضا وزيرة البحث العلمى الدكتورة نادية زخارى، ولكنها رفضت وذهبت لأداء اليمن الدستورية عصر اليوم.. كما أكد ممدوح رمزى الناشط السياسى القبطى أن إجراءاتٍ سيتخذها الليبراليون الأقباط بمنع نادية زخارى من دخول الكاتدرائية إن لم تنسحب من الوزارة.. بل هدد بأنه إذا تنازل الأنبا باخوميوس عن حقوق المسيحيين فسيتحرك الأقباط لطلب الاستقلال والحكم الذاتى.. كما أكد أن "الأقباط لن يتعاملوا مع الحكومة الجديدة التى تسعى إلى أسلمة الدولة.. ونحن لن نعيش فى كنف دولة إسلامية". أقول: (بافتراض أن هذا الخبر صحيح) فإننا نكون بإزاء حالة مرضية لنوع من التفكير السياسى الذى يضرب بمصالح الوطن عرض الحائط، إذ يحاول فرض ديكتاتورية أقلية ضئيلة على الأغلبية الكبرى التى تمثل المجتمع بأكمله من مسلمين ومسيحيين، ويهدد بالانفصال إذا لم تخضع الأغلبية لأهواء بناها على أوهام وادعاءات لا سند لها من واقع.. كنت أظن أننا تجاوزنا - بثورة 25 يناير - هذه التشنجات الطائفية، التى صنعها النظام الاستبدادى البائد، وانزلقت معه حفنة من قيادات دينية شاذة فى فكرها وسلوكها وتوجّهاتها الاستعلائية.. وتأكيدا لهذا المعنى أسأل مندهشا: أليس محمد مرسى هذا هو الرئيس الذى انتخبه الشعب المصرى بإرادته الحرة انتخابا ديمقراطيا سليما، وأنه أصبح رئيسا لكل المصريين؛ بمسلميهم ومسيحييهم على السواء...؟ وهل يصح مخاطبة رئيس الدولة ووصفه بهذا الأسلوب القبيح: أنه مجرد "رئيس إخوانى"...؟ ثم أسأل: من هو رمزى هذا الذى يتحدث باسم جميع الأقباط ويتوعد وزيرة مصرية محترمة بمنعها من دخول الكاتدرائية، عقوبة لها على تعاونها مع الحكومة الجديدة..؟ أليست هذه السيدة مواطنة مصرية يهمها أن تضع خبراتها فى خدمة وطنها، كشأن أى وطنى مخلص لبلاده...؟ هل أصبح رمزى هذا هو البابا الجديد، الذى يمسك بمفاتيح الكاتدرائية كما يملك صكوك الغفران...؟ وإذا كان هو البابا فهل مسيحيته تسمح له بالتدخل فى السياسة أصلا..؟ ناهيك أن يكون على هذا النحو الأحمق الذى يؤجج الفتنة بين جناحى الأمة...؟ وما الفرق بينه وبين قارون العصر ساويرس الذى أعلن بلا مواربة أنه خصّص ثلاثة مليارات جنيه لمحاربة الحكومة التى يصفها بالإخوانية..؟ متضامنا فى هذا مع أعداء الأمة.. وهل يعبّر رمزى بالفعل عن أقباط مصر أم يخدم إمبراطورية ساويرس المالية الإعلامية والسياسية..؟ إنه يتبنى نفس الأفكار والمواقف: رئيس إخوانى.. وحكومة إخوانية تسعى لأسلمة الدولة.. ويردد ما يقوله بالحرف: "نحن لن نعيش فى كنف دولة إسلامية.."! كيف تسنى له أن يحكم على هذه الحكومة بأنها تسعى لأسلمة الدولة وهى لم تبدأ بعدُ عملها..؟! هل قرأ هذا فى تصريحاتها المعلنة.. أو فى برنامج لها مكتوب..؟ أم أنه يحنّ للعودة إلى كنف النظام البائد الذى ثار عليه الشعب..؟ فإذا لم ترضخ الأغلبية لإملاءاته يهدد بانفصال الأقباط، وضرب الوحدة الوطنية لأمة عاش فيها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب فى سلام عبر القرون.. ألا يُعتبر بموقفه هذا واحدا من الانتهازيين الذين ارتضوا أن يبيعوا أنفسهم للشيطان..؟ فى مشهد درامى من مسرحية شعرية أخّاذة تصوّر عصر الشهداء الأقباط تحت سطوة القهر الرومانى الجائر، تقول القديسة دميانة ردا على كورس من الشعب يستلهمون رؤيتها للمسيح فى أواخر أيامه يسألون: "دميانة.. قولى أيتها القديسة.. ماذا قال لأصحابه فى آخر ليلة...؟" وتردّ عليهم دميانة فى ذهول: "تَمْتَمَ المسيح فى عشائه الأخير: "أقولها لكم.. لسوف يجلدوننى.. وحين يصلبوننى.. ستنكروننى.. جميعكم.. جميعكم.. تصوروا أيها الرفاق.. بأن واحدا أراه بينكم.. يقودنى لهم...!" نعم.. إنه دائما – عبر التاريخ - يوجد واحد من بيننا هو الذى يخوننا ويسلّم رقابنا للأعداء والجلادين؛ بالأمس كان مبارك وعصابته، واليوم ساويرس مصحوبا بجوقة من المنافقين والمرتزقة فى السياسة والإعلام.. وفى مشهد آخر من هذه المسرحية البديعة تصور دميانة الشعب المقهور الذى انتفضت هى لتخرجه من كهف الرعب والصمت الذى هرب إليه خوفا من بطش دقيانوس الرومانى.. نعم.. تعرف دميانة أن الشعب يملك النقود -رمزا للقدرة الكامنة - ولكنها كنقود أهل الكهف تجاوزها الزمن لأنها لا تزال تحمل صورة الفرعون الذى مضى زمنه.. خرج أهل الكهف متسللين يبحثون عن الخبز ولكن نقودهم الصدئة لم تعد تصلح ثمنا للخبز.. وبهذا المعنى تتجه دميانة إلى الجماهير صائحة فيهم: "دراهمكم ما عادت تصلح فى هذى الأيام.. لا خبز لكم فى هذا العصر.. حتى يخلع كلٌّ منكم ثوبه.. ويمدّ يده إلى الأفق ينزع فَجْرَهْ.. أَفِيقُوا يا أهل الكهف.. أخطأتم يا أهل الكهف.. حين هربتم من دقيانوس.." يهتف الكورس: "كان علينا أن نهدم روما أو نُصلب..! وتردّ دميانة: "كان علينا أن نبقى داخل أسوار مدينتنا.. لا أن نهجرها.. أو نهرب منها للكهف.. كان علينا ألا نقتل هابيل.. ألا نهدم جدران مدينتنا.."، ويسأل الكورس: "من هدّم جدران مدينتنا.. نحن أم الأعداء..؟" وتجيب دميانة: "نحن.. نحن الأعداء..! الذنب ليس ذنب دقيانوس.. العيب فى الذين طأطأوا الرءوس.. لم يرفعوا السكين والفئوس.." وكأن دميانة الثائرة المصرية المجاهدة تصف عبر الزمن والآفاق حال ثورتنا المتردية التى يخدعنا عنها فريق من الأدعياء الأفّاقين.. يحرضون بعضا منا على قتل أخينا هابيل، بدلا من التصدى للأعداء الحقيقيين.. الذين يتربصون شرا بثورتنا ووحدتنا الوطنية.. يحرضون ضد الرئيس الوحيد المنتخب انتخابا شرعيا صحيحا لأول مرة، والحكومة الوطنية الوحيدة منذ عقود من حكومات التزييف والنهب والفساد.. هذه ملحمة ثورية مصرية فى الصميم، تعبر عن روح النضال الكامنة فى هذا الشعب.. منذ أقدم العصور.. وتضىء لنا منعرجات ومنحنيات مظلمة فى طريق ثورتنا الحديثة حتى لا تتعثر أو تنتكس.. أنظر إلى هذا المشهد الدرامى عندما جاء جنود دقيانوس للقبض على دميانة وأنصارها إن لم يرتدّوا عن ثورتهم.. ويسجدوا للطاغوت المتألّه دقيانوس، فيُواجَه بالتحدّى الثورى فى قمة تألقه: (يدفع الباب قائد رومانى بملابسه العسكرية هو قِلِقْيانوس وخلفه جنوده).. يصيح: "دميانة.. أين هى..؟" وترد واحدة من الكورس: "إنى دميانة"، وتصيح أخرى: "إنى دميانة.."، وثالثة ورابعة.. ثم الكورس كله فى صيحة واحدة تزلزل المسرح: "إنى دميانة".. وفى رجع الصدى ينبعث صوت دميانة تقول بثقة المؤمن وثباته: "إنى دميانة.. من أنتَ وماذا تبغى..؟!" يهتف القائد الرومانى: "أنا قلقليانوس.. أرسلنى دقيانوس.. وسيأتى بعدى ليعذّبكم إن لم ترتدّوا.." ويهتف الجنود "المجد لقيصر والويل لمن يعصاه".. تزجرهم دميانة بقوة: "كلا.. فالعزة لله..؟" يعترض قلقليانوس: "لكن القيصر يملك كل الدنيا.. القوة والجاه...!" فترد دميانة بإباء وشموخ: "لكن لا يملك روحى إلا الله.. لا أحد سواه..!" أرجو أن تتاح لى الفرصة فى مقال آخر أن أتحدّث عن هذه الملحمة الثورية بما تستحقه من تقدير وتقييم، فقد ظهرت طبعتها الثانية سنة 2009 قبل الثورة بعامين، نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، فالتقطتها أجهزة الرصد الطاغوتية فأهالت عليها التراب، لتئِدَها فى يوم مولدها.. ولم يجرؤ ناقد أن يشير إليها مجرد إشارة، لأنها تدين النظام المستبد.. وتطلق إرهاصات بثورة قادمة على الأفق القريب.. ومن يومها لم يسمع بها أحد.. كاتب هذه المسرحية الذى أودع فيها حرارة قلبه ونبض إبداعاته الشعرية ليس مسيحيا، بل مسلما أعرفه كما أعرف نفسى؛ فهو أخى الأصغر الدكتور صلاح عدس، علمتُه حرية الفكر والإنصاف فى الرأى عندما كنت أستاذه فى المدرسة الثانوية.. وقد تعجبت أن يضيع جهد عام كامل تفرّغ فيه لدراسة وبحث عصر الشهداء المسيحيين فى مصر، كانت ثمرته هى هذه المسرحية الشعرية التى وُئدت فى يوم مولدها. ورغم إدراكى للظلم الذى وقع عليها وعلى مؤلفها.. ظللت سنوات متحرّجا أن أكتب عنها بشىء من الإنصاف الذى تستحقه، حتى لا يُقال أنى أحابى أخى.. ولكن الاتجاهات المتطرفة التى برزت اليوم على السطح، لتفرز سموما طائفية فى المجتمع لم نعهدها من قبل، تقتضى منا أن نتوقف عندها لننبه: إنه إذا كان هناك خطر حقيقى على المسيحيين فلم يكن ولن يكون من جهة المسلمين المتديّنين تديّنا صحيحا، وأحسب أن الرئيس والإخوان بعضٌ منهم.. وكذلك أخى صاحب ملحمة الشهداء.. فى إبرازه لحقيقة الثورة المسيحية على ظلم القيصر.. وإدراجها فى سجل النضال المصرى من أجل الحرية والكرامة.. ولكن يأتى الخطر بالتأكيد من جانب الأنظمة الاستبدادية التى لا دين لها ولا ضمير، ولا تعبأ بمصالح الشعب أو كرامته، وإنما تتلاعب به وتضرب قواه وطوائفه بعضها ببعض، حتى ينشغل الجميع عنها.. ولتتفرع هى للنهب وتجريف الثروة وتوريث السلطة.. ولأنها لا تستند إلى شرعية حقيقية من الشعب تبيع نفسها وتسخّر موارد البلاد لخدمة الأجنبى، تستجدى منه شرعية زائفة تستقوى بها على الشعب.. هذا هو الخطر الحقيقى الذى يجب أن نتنبّه إليه، ونحصّن أنفسنا منه بالعمل المشترك.. لا أن نستهلك طاقاتنا فى محاربة بعضنا البعض الآخر، فيبوء الجميع بالخسران المبين.. [email protected]