كان جحا يمتلك عمارة من شقتين يتميتين ، استوطن هو وأولاده إحداهما ، وأجّر الأخرى لرجلٍ كان عضوا في الحزب الوطني المنحل ، وكان ذلك المستأجر الفلولي يذيق جحا " المر " و "الأمرين" حتى يعطيه إيجاره الشهري، ولما قامت ثورة يناير استراح جحا بعض الشيء من العناء الذي كان يلاقيه في سبيل تحصيل إيجار شقته. لكن لم يكن جحا يعلم ما قد خبأ له ذلك الفلولي الماكر، فبينا جحا عائد هو وأسرته من مصيفه حتى فوجئ بأن باب شقته لا يفتح، مع سماعه ما يشعر بوجود أشخاص في الداخل، مما حداه لأن يدق الجرس، فلم يَرُعه إلا خروج أحد " الخواجات " يسأله عما يريد ، وبعد هرج ومرج تبين جحا أن المستأجر الفلولي قد زوّر أوراقا وباع الشقة التي يسكنها جحا على أنها شقته إلى هذا الخواجة ، ولأن جحا رجل متحضر ويحترم القانون والدستور ؛ فقد استسلم للوضع القانوني الجديد ، ونزل بأسرته إلى البدروم، وعزم أن يتوجه من الصباح لتقديم بلاغ ورفع دعوى على الفلولي والخواجة أمام المحكمة الدستورية العليا ؛ ليختصر الطريق على نفسه ، ولأن المحكمة الدستورية هي أعلى المحاكم في الهرم القضائي الشامخ. ولما تقدم جحا بدعواه إلى المحكمة قبلت المحكمة الموقرة أن تنظر الدعوى في سنة 2050 م ، وهنا جعل جحا يحثو التراب على رأسه كأنه مجنون ، ويقول : هل سيظل بيتي محتلا حتى سنة 2050 ، فأجابته المحكمة بأنه رجل قليل الأصل ولا يصون الجميل والمعروف ؛ لأن المحكمة الموقرة لا تنظر هذه القضايا الصغيرة ؛ فهي محكمة دستورية، وإنما قبلت كنوع من الإحسان للفقراء والمساكين، أما عن تاريخ نظر الدعوى ، فأمرت المحكمة جحا أن يُقبّل ظهر يديه وباطنهما إذْ حددت له هذا التاريخ القريب؛ لأن قضية وطنية مثيرة ، وهي محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، قد عُرضت على المحكمة منذ عام 1993 ، ولم تبت المحكمة فيها إلى الآن ، فكيف يستطول جحا عام 2050 على قضيته الشخصية ؟! كاد جحا أن يجن وأُسقط في يده وعاد إلى البدروم مهموما كسيرا، ولكن شباباً يعرفون جحا من حركتي " 6 أبريل" و " حازمون" الثوريتين اجتمعوا به، وأفهموه أن حبل القانون طويل ، وأن دعواه التي ستنظرها المحكمة في 2050 قد تأخذ تأجيلا إلى 2090 ، وأوعزوا إليه أن الحقوق تنتزع ولا توهب ، وأنه لا بد أن يسلك سبيل الخواجة ويرد له صاعا بصاع ، وأن يراقبه وينتظر خروجه ويقتحم الشقة ويغيّر " الكالون " والمفاتيح وأن يعتصم في الشقة ولا يبرحها حتى ييأس الخواجة ويعلن إلغاء احتلاله لها! على مضض استجاب جحا لنداء الثوريين ، وهجم على الشقة في غياب الخواجة، وفعل ما أوصاه به الشباب، وعندما عاد الخواجة ووجد جحا قد رد له الكيد بكيد والمكر بمكر – طرق الباب مغضبا، وقال لجحا : القضاء بيننا، وسأقاضيك غدا أما الدستورية العليا. هنا أطلق جحا ضحكة مدوية من داخل شقته ، وهو يقول للخواجة: حسنا جدا ! أراك في سنة 3000 ! ونام جحا قرير العين بعدما اطمئن أن الخواجة سيسلك السبل القانونية فقط ، لاسيما سبيل المحكمة الدستورية. بعد يوم واحد فوجئ جحا بطرق شديد على باب شقته ، ظهر جليا أنه طرق رجال الشرطة ، فتح جحا الباب واستوضح الأمر ، فإذا بالخواجة رفع دعوى ضده أمام الدستورية لاحتلاله شقته ، وقضت الدستورية بصحة الدعوى ، وجاءت الشرطة لتنفيذ حكم المحكمة. استشاط جحا غضبا وهو يقول للضابط : هذا حكم زوّره الخواجة ؛ فالمحكمة لا تنظر في أي دعوى بهذه السرعة. أجابه الضابط : كلامك غير دقيق ؛ فالدستورية قضت ببطلان مجلس الشعب المنتخب من 30 مليون مواطن ، والذي كلفت انتخاباته خزينة الدولة الملايين الكثيرة ، في أقل من ثلاثة أشهر من رفع الدعوى أمامها ، مع تعقيد تلك القضية وكونها تمس الصالح العام ، بل وزعت قرار البطلان على الصحف القومية مختوما قبل النطق به في اليوم التالي، ثم إن المحكمة ذاتها قد قضت بإيقاف تنفيذ قرار الرئيس الجديد بعودة البرلمان بعد صدوره ب 48 ساعة، فكيف تستنكر أن تنظر في قضية صغيرة كقضية الخواجة المرفوعة ضدك في 24 ساعة ؟! ولم يملك جحا أمام هذا الرد المفحم سوى السكوت. بعد عودة جحا للبدروم طرأت على ذهنه فكرة جهنمية من ألاعيب المحامين ، وهي: أن يرفع دعوى ضد الدستورية بعدم اختصاصها بالنظر في القضية ، لأن اختصاصها الفصل في دستورية القوانين ، والدعوى المرفوعة ضده من جهة الخواجة ليست من الشأن الدستوري، كما أن منطوق حكمها قضى بصحة الأوراق التي قدمها الخواجة بامتلاكه لشقة جحا ، ولم يتعرض لوجوب تطبيق هذه الملكية على الواقع وطرد جحا الذي يحول دون ذلك، ومن هنا يكون اقتحام الشرطة لشقة جحا وطرده منها عملا غير قانوني ولا دستوري. وهنا أقام جحا دعوى أخرى على وزارة الداخلية لاقتحامها شقته ، كما طالب جحا في دعواه بأن يُنظر فيها بنفس السرعة التي نُظرت فيها قضية الخواجة أو إيقاف قرار الرئيس بعودة البرلمان. عندما نظرت المحكمة الدستورية في القضية الأولى المتعلقة بعدم اختصاصها قضت ببطلانها، وأن من اختصاصها النظر فيما تحب، وأنه كما أن الناس أحرار فالمحاكم أيضا حرة ، وأنه لم يبق إلا جحا الذي يحدد للمحكمة ما تنظر فيه وما تعرض عنه ؟! وأن دعوى جحا غير دستورية ، بل اسمه أصلا غير دستوري، أما عن الدعوى الثانية ضد وزارة الداخلية فقضت المحكمة ببطلانها أيضا ؛ لأن الجهات السيادية من حقها اتخاذ إجراءات فيما يتعلق بالصالح العام ، وراحة الخواجة داخلة في الصالح العام ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فالمحكمة لا تعقب على قرارات الجهات السيادية ، واستشهدت المحكمة بسابقة قضائية حيث رفع أمامها دعوى مشابهة تماما لهذه الدعوى ، وهي الدعوى المرفوعة ضد قرار رئيس الجمهورية بتصدير الغاز إلى تل أبيب، وقضت المحكمة وقتها أن قرار الرئيس سيادي لا تعليق عليه، وليس من حق المحكمة النظر فيه ، وأن للرئيس اتخاذ قرارات تخدم الصالح العام! المهم : قضت المحكمة بتغريم جحا مصاريف الدعوى ، وقضت كذلك بتغريم كاتب المقال ورئيس التحرير كل ما يملكونه بسبب هذا الغمز واللمز بالقضاء الشامخ، الذي صار يتعرض الآن لحملة ضارية في "الفوص بوك" و "الطنيطر "!!! [email protected]