بعد الثورة أصبحت أغلبية البرلمان صاحبة السلطة فى إقرار الشريعة الإسلامية من التيار الإسلامى، لكننا لم نر مشروعاً واضحاً متكاملاً لتطبيق الشريعة! ثم غاب البرلمان – أو تم تغييبه - فى ظل صراع الإرادات بين ذوى السلطان التشريعى والتنفيذى.. ثم بدأت معارك الانتخابات الرئاسية، ومرة أخرى بدأنا نسمع المصطلحات الرنانة ك (المرجعية الإسلامية)، و(المشروع الإسلامى)، و(الشريعة الإسلامية) بصورة هيستيرية؛ بعضها خرج فى سياقات (مسفّة) وخادعة؛ لا تليق بجلال الشريعة! وفجأة اكتشفنا أن المادة الثانية من الدستور- وهى ذات المضمون الثابت منذ فجر الدساتير المصرية - هى الشريعة الإسلامية ذاتها، هكذا قال المرشح الإسلامى، وكرر وأكد، وهو الذى يزايد مؤيدوه (الملتزمون) على منافسه (المارق) الذى شق عصا الأمة، وتخلى عن المشروع الإسلامى والشريعة الغراء، على الرغم من أن مرشح المشروع الإسلامى (الأوحد) – كما يصفه مؤيدوه - ذَكر نصّاً وبلا مواربة أو مونتاج أن قطع يد السارق ليس من الشريعة الإسلامية! وأن الشريعة الإسلامية هى مشروع النهضة ومفرداته– أو كما قال! واشتعلت المعركة الهزلية بين الأتباع والمريدين، فمن يؤيد (أبو فلان) خرج عن الإجماع الوطنى وتخلى عن الشريعة والمشروع الإسلامى، ومن لا يؤيد (فلان) فقد ارتكب بهتاناً وإثماً مبيناً- أو كما قال! وتساءلنا وما من مجيب: هل إقرار الشريعة الإسلامية مسئولية السلطة التنفيذية، وعلى رأسها رئيس الدولة حتى يصدع بعض المرشحين بها رءوسنا؟! أم أنها مسئولية البرلمان التشريعى الذى اكتسحه الإسلاميون بجدارة؟! وإذا عدنا لمجلس (الشيوخ) المصرى المنتخب، سنلاحظ أن إقرار (قوانين الشريعة الإسلامية) من أكبر الأزمات التى ستواجهه؛ فعملية التطبيق تحمل طابع الجدية والحسم فى أمور لا تقبل الحلول الوسطى، أما التنظير فمن الجائز جداً أن يتحدث المثقفون فى أحكام تتباين فيها الآراء بصورة مفزعة، ثم يغادر المتحدثون، ويخلدون إلى نوم عميق لحين مناقشة أخرى. وحقيقة الأزمة تتمثل فى عدم وجود منهج علمى ونقدى واضح تستند إليه أحكامهم الفقهية سوى ادعاءات فارغة من مضامينها، غير دقيقة التعبير، وهى حالة مزمنة بدأت مع تدوين التراث الفقهى الذى قام على حشد الفتاوى المتضاربة فى جميع الأحكام الفقهية تقريباً.. تلتها مرحلة أخرى (تبريرية) قامت من أجل البحث عن عذر مقنع لأصحاب الفتاوى واختلافاتهم؛ وقامت على تلفيق الأدلة الصحيحة والضعيفة والقياسات القريبة والبعيدة لتلك الفتاوى المرسلة فى مراحل متأخرة. وقد استندت تلك (الفتاوى) فى الحقيقة على أسماء قائليها دون أدلتها ومقدماتها، وذلك على الرغم من أن هؤلاء العلماء قد نسبت إليهم أطنان من الفتاوى والأقوال لا يمكن إثبات صحتها أو صدق نسبتها لأصحابها إلا بدليل علمى معتبر.. وهو أمر صعب المنال! مظاهر تلك الأزمة القديمة بدأ فى العودة مبكراً مع كثرة الشيوخ فى حياتنا السياسية، فإذا أردتَ استنقاذ فتوى ما من كتب التراث الفقهى المعبأ بكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين على كافة انتماءاتها، وجدت الفتاوى الصاروخية والفتاوى المضادة للصواريخ! وعلى سبيل المثال؛ تفتى (الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح) بعدم جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، فتقوم على الجهة الأخرى (دار الإفتاء بالأزهر الشريف) بفتوى تجيز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم! وإذا ثارت فى أذهان بعضهم مخاوف من تطبيق شريعة الإسلام، وما قد يستتبع ذلك من تحريم الخمر؛ يتصدى لهم (أستاذ فقه أزهرى) ليفتى فى بعض الفضائيات بفتوى تحلّل القليل غير المسكر من خمور غير العنب! ثم يحيل الأمر إلى اسم الإمام الأعظم (أبى حنيفة)، ويتهم مخالفيه بأنهم لا يقرأون.. ويهدئ روع المشاهد (المدمن) بأن معظم الخمور الموجودة ليست من العنب.. وبهذا تكون مشكلة السياحة والخمور قد وجدت طريقها للحلّ! وقد وجد المغرضون منذ زمن بعيد فى هذا التراث المتضخم ضالتهم.. وسوف يكونون من الغباء بمكان؛ إذا تخلوا عن هذه الفرصة لتمرير (شريعة) مقبولة لديهم؛ عن طريق انتقاء أحكام من بطون كتب التراث تتوافق مع أشد صور المذاهب الوضعية تحرراً وانفلاتاً، حيث من المنتظر أن تستند شريعتهم إلى أسماء لا يمكننا الوقوف أمامها إلا إجلالا وانحناء وإكباراً. ونظراً لغياب منهج علمى نقدى واضح نعود إليه جميعاً فى حواراتنا، فإن التيارات الدينية السائدة ستكون أمام مفترق طرق؛ فإما الرضوخ لهذه المهزلة، وهذا العبث! وإما الصدام الأعمى (العبثى أيضاً) القائم على الصراخ والصوت العالى والإقصاء، وربما العنف! وإما (الطناش التام)، ثم استعادة شعارات (الشريعة الإسلامية) وقت الحاجة فى مناسبات انتخابية قادمة! ربما المحليات أو انتخابات المحافظين، أو انتخابات هيئة الصرف الصحى – كما أشار أحدهم! وهنا تبدأ (المعمعة)؛ فإذا طلبتَ استفساراً أو دليلاً؛ وفكرت فى مراجعة أو طلبت مناقشة؛ تصدت لك الأطراف المتنافرة بأنهم (أهل الذكر) الذين وجب عليك اتباعهم.. فتحتار خلف من تذهب؟! وإلى جوار من تقف؟! فما عليك إلا أن تتصلب تائهاً مذهولاً، واضعاً يديك خلف ظهرك.. كما كان يفعل (حنظلة) للمبدع ناجى العلى! [email protected]