ليست قضية شخصية ، ولكنها حالات من حالات الخلل التى تعيشها صحافتنا المسماة بالقومية ؛ فمنذ أربعين عامًا تقريبًا كنت أكتب فى "الأهرام" ، وأنشر أخبار كُتبى ونشاطاتى ، وعرفت فى أروقته كُتابًا فُضلاء ، وأدباء كانوا ناشئين وصاروا مرموقين ، ربطتنى ببعضهم علاقات إنسانية مازالت باقية حتى اليوم ، ولم يمنع تبايُن التوجه الفكرى أو الأدبى مع بعضهم أن تكون الصلات إنسانية حميمة، والعلاقات قائمة على التقدير والاحترام .. ثم جاءت فترة ازداد فيها القمع ، وحُوصرت حرية الرأى من جانب أجهزة الشر والقهر والاستبداد ، فقدّرت للقوم ظروفهم ومدى الحرج الذى يعيشون فيه ، فكنت أبتعد عن الكتابة إلا لضرورة أدبية ؛ مراعيًا ألا يكون ما أكتب سببًا لمضايقة مَن أحب أو محرجًا لمَن أعرف ، ثم إننى فى كل الأحوال كاتب هاوٍ، أعيش فى أعماق الريف بعيدًا عن ضجيج العاصمة وعجيجها ، ولا أنافس أحدًا على مكاسب ، ولا أُغاضب على شهرة ، وهو ما منحنى بفضل الله حالة من القناعة والرضا بأن كل حرف أخطّه يجب أن يكون فى سبيل الله وحده ؛ لأن ما عدا اللهَ لا يعنينى . تحت سطوة القمع كان المجال مفتوحًا لمن يغنّى للنظام الجائر بكتاباته ، ولمًن يُنشد لرموز الظلم أناشيد الولاء والتأييد ، ومَن لم يكن يفعل ذلك كان يتناول الإسلام والمسلمين بكل قبيح من القول ، وكل نقيصة من الأخلاق ، واستغل بعضهم ما عُرف بمحاربة الإرهاب الإسلامى ليُخرج ضغائنه وسخائمه ضد دين الأمة وشريعتها ، وإسقاط معتقداته المادية المنحرفة على معطيات الإسلام بما يشوه الصورة الإسلامية ، ويقبّحها أمام جمهور القراء والمتلقين ! كانت محنة الأمة عاصفة ، وكان القهر بشعًا ، وشاء الله أن تنقشع الغمة ، ويسقط النظام الإرهابى الفاسد ، ويبزغ عهد جديد ، شعر فيه الناس أن الخوف قد سقط ، وأن الزمن القبيح الذى استمر ستين عامًا لن يعود مرة أخرى مهما استبد خلفاؤه ، وتفننوا فى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ، وساندتهم قوى الشر الإقليمية والعالمية .. لن تعود العقارب إلى الوراء أبدًا. كان سقوط النظام إيذانًا بتغيير الخطاب العام ، وظهور مُعجم جديد مختلف عن المعجم الذى كان سائدًا فى الزمن القبيح ، وكانت هناك مبادرات مشكورة من بعض الفضلاء للمشاركة بالكتابة من جانب الأقلام المحجوبة أو المطارَدة أو الممنوعة ، وطالع الناس أسماءً لم تكن متاحة فيما يُعرف بالصحف القومية ، وكانت "الأهرام" فى مقدمة هذه الصحف ، وكان لقلمى المتواضع فرصة الكتابة لبضعة شهور بصورة شبه أسبوعية ، وفجأة توقف النشر لموضوعاتى . أخذت أتهم نفسى، فأرسل الموضوع أكثر من مرة ظنًا أنه لم يصل إلى القسم المختص ، وأفترض أنه ضاع ، أو لم يستطيعوا فى الصحيفة سحبه من البريد الإلكترونى ، فأعيد الإرسال مرة ومرة .. أفترض أن الموضوع غير ملائم أو محرج أو أنه يسبب مضاعفات للصحيفة والكاتب ، فأرسل غيره، وظللت على هذه الحال قرابة شهرين ، كنت خلالهما أخاطب مَن أعرف فى المؤسسة العريقة؛ ليرد علىَّ برَدّ شافٍ يشرح سبب الحرمان من حرية التعبير التى كانت ، هواتف مَن بيدهم الأمر لا ترد ، أرسل رسائل بالبريد الإلكترونى أطلب من المسئول أن يتعطف ويتنازل ويكلف سكرتيرته بالرد علىَّ ، مع أننى لست تافهًا ولا هملاً! ، فأنا على الأقل أستاذ جامعى تخرّج على يديه عشرات الآلاف من الطلاب فى جامعات مصرية وعربية ، وكاتب لا بأس به ، ومؤلف نشر نحو سبعين كتابًا فى مجال التخصص والإبداع والقضايا العامة ، وكرمته فى الداخل والخارج جهات ذات قيمة .. ولكن لا أحد يقطع الصمت ! إلى هذا الحد وصل الاستعلاء أو الفوقية كما أتوهم ؟ ، هل عادت أجهزة الأمن اللعينة التى كانت تتحكم فى الصحف مرة أخرى ؟، هل هى سطوة واحد ممن يكرهون الإسلام والمسلمين فرضت على المعنيين أن يتوقفوا عن نشر ما أكتب ؟، هل هى عقوبة شخصية يتم توقيعها على الكاتب دون أن يعرف الجرم الذى اقترفه ؟! المفارقة أن هناك أقلامًا كانت فى العهد البائد ، وأخرى مستحدَثة بعد سقوطه تنشر فى الأهرام بانتظام أسبوعيًا وشهريًا ، وتحظى بعقود رسمية ومكافآت مادية ، مع أن معظمها أو أغلبيتها الساحقة لا تعرف غير موضوع واحد هو العداء للإسلام بالعمل على استئصاله وتشويهه ، والتحقير من أتباعه من خلال بعض الحوادث الفردية أو القضايا الهامشية ، فضلاً عن رفض الشريعة والإفتاء فى أركانها دون علم أو معرفة ، ووصل الأمر ببعضهم إلى تشبيه وصول المسلمين إلى البرلمان فى الانتخابات التشريعية باختيار الشعب الألمانى لهتلر ، وما ترتب على ذلك من حروب مروعة وحشية فى أرجاء الكرة الأرضية ! لقد آن الأوان أن يدرك مَن يعنيهم الأمر أن مصادرة الفكر لا تمثل حلاً دائمًا لما يعتقدون أو يتصورون ؛ فالمصادرة لم تكن فى يوم ما بديلاً عن المحاورة وتقبل الرأى الآخر ، وقد كان هناك فريق أيديولوجى من الضآلة والندرة بمكان يرفع شعار فولتير الشهير المتضمن الدفاع عن حرية الرأى الآخر ، ولو اقتضى الأمر افتداء هذه الحرية بالنفس ، ولكن المفارقة كانت فى أن المقصود بالرأى الآخر هو رأى الفرقاء الآخرين فى داخل الأقلية الأيديولوجية الضئيلة والنادرة ، التى وصل التعصب بأفرادها إلى رفض نشر الأخبار عن الذين لا يؤمنون بأيديولوجيتهم المستبدة الفاشية ! المحاورة طريق الأمل ؛ لأن المصادرة مصيرها إلى زوال ، كما زال النظام الفرعونى العميق الجذور بفضل الله ، فى وقت ظن فيه الناس أنه راسخ إلى يوم القيامة ، ولكنه كان أوهى من بيوت العنكبوت !