ورد على خاطرى وأنا أتابع أحوالنا فى مصر قصة رائجة من حكم الشعوب، هى قصة العقرب والضفدع. "يحكى أن رياحاً ساخنة حملت أنثى عقرب إلى الجانب الآخر من مجرى مائى، ولم تجد العقرب سبيلاً للعودة إلى جحرها، فتوسلت إلى ضفدعة كانت تسبح بمهارة جيئةً وذهاباً أن تحملها على ظهرها وتعبر بها المجرى المائى لتعود إلى أهلها: لكن الضفدعة أجابتها: أخشى أن تلدغينى فأموت، فردت عليها العقرب بلهجة حاسمة أعدك بألا أفعل ذلك. حملت الضفدعة المسكينة العقرب على ظهرها، وعبرت بها المجرى المائى وحالما وصلتا إلى الشاطئ الآخر، أحست بوخز السم يسرى فى جسدها، فالتفتت الضفدعة إلى العقرب وقالت لها بأسى: ألم تعدينى بألا تلدغيني؟! فردت عليها العقرب: أنا آسفة يا أختى لأن الطبع يغلب التطبع." ولهذه القصة، التى لا تخلو من حكمة، روايات مختلفة منها: إن شهوة اللدغ عند العقارب أقوى حتى من حرصها على الحياة. ففى إحدى الروايات: إن العقرب لدغ الضفدع فى وسط النهر فغرقا الاثنان معاً. وهذه الشهوة فى اللدغ جعلت ذكر العقرب أكثر المخلوقات زهداً ونسكاً. فذكر العقرب لا يتزوج إلا "عقرب واحدة" ولمرة واحدة فى حياته لأن أنثاه تقتله لدغاً فور انتهاء حفل الزواج غير البهيج، وتضع البيض على جثته لكى يتغذى عليه صغار العقارب عند فقس البيض. كثيرة هى المناسبات التى دفعتنى فى الشهور القليلة الماضية إلى تذكر هذه القصة التى لا يعرف لها مصدر ولا أصل رغم رواجها.. تذكرت هذه القصة وأنا أتابع على شاشة تليفزيون "بى.بى.سى" حواراً دار بين زين العابدين توفيق ولواء متقاعد يحمل لقب "الخبير الاستراتيجى" عن أحداث ماسبيرو، التى وقعت فى التاسع من أكتوبر الفائت، وخصوصاً عندما قال الخبير الاستراتيجى: إن أحد المتظاهرين فى ماسبيرو قتل أربعة جنود كانوا داخل مدرعة بحجر واحد، فرد عليه زين العابدين التقارير قالت إن جندياً واحداً استشهد وليس أربعة، فصمت الرجل ولم يجب بكلمة. استوقفنى أن الخبير الاستراتيجى لم يفكر ولو لدقيقة واحدة كيف يمكن أن يقتل حجر واحد أربعة رجال يجلسون داخل مدرعة فى مساحة لا يمكن أن تقل عن متر مربع؟! هل تصورهم الخبير الاستراتيجى أربعة كتاكيت يتدفئون فى بعضهم حتى يقتلهم جميعًا حجر واحد؟! أم ماذا؟! الغريب أيضاً أن حمرة الخجل لم تعلُ وجه الخبير الكذاب، بينما خجلت أنا بالنيابة لما يحدث لنا، ليس لأن هذا الخبير كان يكذب بفجاجة على مرأى ومسمع الملايين دون خجل، ولكن لأن ما فعله الرجل هو بعينه ما يفعله بنا، وبطريقة منظمة، أغلبية كبيرة من المسئولين والبرلمانيين والخبراء والوزراء. لا أريد أن أعدد أسماء بعينها ولا أن أقدم وقائع محددة بالصوت والصورة لرموز بعينها حتى لا يخرج بنا الحديث عن هدفه الحقيقى- وهو النقد بدافع رغبة صادقة فى الإصلاح- إلى التجريح والصراع. على أى حال فإن الكذب والالتفاف والخداع وتوزيع الأدوار والنكث بالوعود والتلون إلى آخره، حدث كل هذا على مرأى ومسمع الجميع على شاشات التليفزيون. إذا كذب مسئول مرة واحدة، فى أى بلد من بلاد العالم الذى يحترم قوانينه، فإنه يفقد مصداقيته ويخرج من عالم السياسة. فلماذا لا يعتذر المسئول الكذاب ويعطى فرصة للتوبة وتصحيح المسار؟ لأن التوبة مكانها القلب، وفى رحمة الله ودور العبادة، لكن السياسة تحترم قاعدة ألا يلدغ الوطن من عقربٍ مرتين.. فالسياسة فى المجتمعات التى تحترم القوانين ويعمل فيها الساسة فى خدمة الشعوب ولصالح الشعوب تعيش بمنطق أن من يكذب علينا يغشنا، ومن غشنا فليس منا.. ويتأسس على هذا المنطق العزل السياسى للمسئول الكاذب، والعزل هو جزاء الساسة الكاذبين. تعجبت أكثر لأن القيم التى تعيش بها مجتمعات أخرى دون أن تذكرها، هى ذات القيم التى مل الناس فى بلادنا من كثرة تكرارها على مسامعهم، ليل نهار، دون أن يكون لها نصيب من الفعل والتطبيق.. وتكون النتيجة أن الناس تفقد المصداقية لما نراه، وبشكل يومى، من فجوة بين القول والفعل، بين المثال والواقع.. وتكون النتيجة إفراغ هذه القيم من مضمونها وأزمة ثقة كبيرة يعيشها المجتمع.. ربما كان هذا هو الدافع لأن تشدد المجتمعات والدول التى قطعت شوطاً كبيراً فى التقدم، فى الممارسة والتطبيق وأن تقل من الأقوال لصالح الأفعال، وفى تغليظ العقوبة للكاذبين والحانثين باليمين والناكثين للوعود.. كثيرة هى الأوجاع والآلام فى بلادنا، وكثيرة هى الأمور التى تحتاج إلى تقويم وإصلاح، وكأنه ليس لدينا ما يكفينا من المصائب التى لا تأتى فرادى.. ففيما كنت أعد هذا المقال لصحيفة "المصريون" داهمنى الخبر الأليم عن المذبحة التى دبرت لجمهور من مشجعى كرة القدم فى استاد بورسعيد، والتى راح ضحيتها عشرات القتلى وأكثر من ألف مصاب فى أقل من ساعتين. تساءلت لماذا يحدث كل هذا القتل لشبابنا ولماذا تتكرر نفس المجازر بنفس الآلية وبنفس السيناريو؟ وكأن مدبرها مخلوق غبى لا يملك إلا فكرة واحدة، لا يعرف كيف يحيد عنها؟ لا أملك الصلاحيات ولا الأدوات التى تمكننى من الحكم على جهة بعينها، ولكننى من واقع خبرتى فى تحليل وعلاج سلوكيات الناس كمشتغل بالرعاية، أستطيع أن أقول إن السبب هو أننا أسلمنا أنفسنا، أو سلمنا الأمر لأناس يكذبون وتساهلنا وما زلنا نتساهل مع كذبهم، بل ويسعى البعض منّا إلى التواطؤ والتستر على كذبهم وتبريره بدلاً من فضحهم والمطالبة بمحاسبتهم.. وعودة إلى قصة العقرب، فأغلب الظن أننا سنظل على هذه الحال حتى ندرك أن "الطبع يغلب التطبع"، وحتى نعيش بمبدأ "من غشنا ليس منا" الذى نكرره، ليل نهار، دون أن نكف مرة عن التكرار علّنا نعمل ولو مرة بما نقول.. وللحديث بقية إن شاء الله الأنبا مكسيموس رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]