قبل ثلاثة أيام قُتل سبعة رجال فى قرية ربما لم يسمع أحد باسمها من قبل، قُتلوا فى سرادق عزاء، حيث القرآن يتلى والموت يهاب، لكن غضب الجهلاء لا يعرف حرمة، ولا يرتدع إن طاشت رصاصاته. قُتل سبعة أخذا بثأر طفل قُتل عن طريق الخطأ قبل سنوات. قبل يوم من هذه الجريمة البشعة التى جرت أحداثها فى قرية بائسة فى قنا، كانت جريمة أخرى أريق فيها دم طفلين صغيرين كانا فى صحبة عمهما القاضى الذى صحب فى سيارته بندقية آلية ومسدساً، ولا تسأل لماذا يضع رجل قانون هذا السلاح فى سيارته؟ ولماذا يدخل طرفا فى نزاع على قطعة أرض صحراوية حتى اضطر، كما قيل، للدفاع عن نفسه بإطلاق النار على الطرف الثانى من أطراف الخصومة، فقتل أحدهم؟ لا تسأل كيف ينتشر السلاح فى هذه البلدان أكثر من الطعام؟ ولا تسأل كيف يشترى رجل لا يملك قوت أطفاله بندقية بعشرين ألف جنيه؟ وكيف يمشى الناس فى الشوارع والطرقات والحقول حاملين أسلحتهم غير المرخصة دون أن يمسسهم أحد؟ هكذا تدور الرحايا ولا يفلت أحد، سبعة يقتلون ثأرا لطفل، وسبعة غيرهم يقتلون أمام كنيسة بيد مجرم تربى فى حجر السلطة، وقبلهم قُتل بشر بسبب حمار قضم حزمة برسيم من «غيط»، وبعدهم سيموت المئات باسم الثأر مرة، وباسم الجهل والفقر مرة، وباسم النظام مرات، فالسلطة تريد الصعيد هكذا متخلفا وبائساً ومحكوماً بالقبلية والجهل، تريده مريضا لا يصدع الرأس، ولا يصدرا إرهابا، تريده دائرا فى حلقة القتل الجهنمية التى لا تتوقف عن الدوران. الناس فى الصعيد يقتلون لسبب وبدون سبب، تأخذهم شهوة حمل السلاح وتقودهم العنجهية الفارغة، فينسون حياتهم ومعاشهم، ينسون الحكومة والسياسة والدولة، ينسون مستقبل أبنائهم، يعطلون عقولهم ويطلقون العنان لغضبهم، وكله مفيد، فالصعيد المنغلق والمنكفئ على بلاويه والغارق فى دمائه، ليس له صوت فى برلمان، لا يصرخ إن قرصه الجوع، ولا يئن إن أهلكه المرض. فالمظاهرات والاعتصامات والإضرابات التى تملأ مصر ليس للصعيد فيها أى نصيب، فلماذا إذن تسعى الدولة لإيجاد حلول لمشكلات الصعيد؟ ولماذا تتحرك الشرطة إذا كان ضابط المباحث يجلس فى مكتبه ويطلب أى كم من السلاح، وحين يأتيه تنشر الصحف اسمه وصورته على أنه قاد حملة مكبرة وجمع كل هذا السلاح؟ لماذا تدخل الشرطة فى مشكلات إذا كانت الجرائم تقع والمجرمون الكبار يسلمونها مجرمين صغاراً؟ إذن للقتل فى الصعيد فوائد عديدة وعظيمة، فالقبائل الكبيرة تضع فى جيبها كل السلطات وتحمى نفسها بما لديها من ضباط وقضاة وأعضاء فى مجلسى الشعب والشورى، فمعظم نواب الحزب الوطنى عن الصعيد غارقون فى الفساد، منهم من يتاجر فى السلاح، تحت سمع وبصر الحكومة والنظام، ومنهم من يخترع خصومات كى يتسيد أو كى ينحاز لقبيلة كبيرة على حساب قبيلة أخرى لم تعاده، ومنهم من يتاجر فى كل صنوف الممنوعات تحت ساتر الحصانة. تفشى جرائم القتل فى أى مجتمع يعنى أن هناك كارثة إلا فى صعيد مصر، فانتشار القتل فى الصعيد بهذه الصورة المفزعة معناه اختفاء الدولة وموت القانون وسيادة القوة غير الشرعية، وغياب العمل ورواج تجارة السلاح، لكن إذا كانت الحكومة تعتقد أن مصلحتها فى بقاء الصعيد على حاله، فحتما سينقلب السحر على الساحر.