المبدأ السائد الآن هو: أنا أتكلم فأنا موجود، أو أنا أكتب فأنا موجود.. ولا يهم ما الذى أقوله أو أكتبه، ولا يهم أن يكون ما أكتبه أو أقوله صواباً أو خطأ.. المهم أن أتكلم أو أن أكتب.. ويبدو - والله أعلم بقلوب عباده - أن كثيرا من الذين يتكلمون أو يكتبون هذه الأيام لا يهمهم أن يكون هناك من يسمع أو يقرأ.. المهم أن يشعروا بذواتهم، وأنهم ما زالوا يثرثرون أو يكتبون بعض الكلمات، فذلك يمنحهم إحساساً بالحياة.. على الطرف الآخر، أصبح الذين يسمعون أو يقرؤون يشعرون بملل، أو ضيق، أو ضجر، فلا فائدة ولا صدى ولا مردود، ثم إن الذى قلناه أو كتبناه بالأمس، نقوله أو نكتبه اليوم، وربما نقوله أو نكتبه غدا، وبالتالى لا جديد.. يحضرنى فى هذا أن أحد علمائنا كان يتحدث إلى قوم فى لقاء عام، وبينما هو فى قمة انفعاله قاطعه أحد الجالسين بقوله: «صار لكم أربعون عاما تتكلمون فماذا صنعتم؟!» فرد عليه صاحبنا بقوله: «وأنتم صار لكم أربعون عاما تسمعون فماذا صنعتم؟!».. المسألة مستوية الطرفين لا جدال.. لكن الذى نعلمه يقينا أن كل ما خرج من القلب دخل إلى القلب، وبقدر صدق الكلمة يكون التأثير، وبقدر اقتران الكلمة بالنموذج القدوة يكون التفاعل. يجب أن تكون لدينا شجاعة الاعتراف بأن الكلمة - مقروءة أو مسموعة - فقدت معناها وصداها.. وليس هناك أكثر من الكلمات التى تمتلئ بها الصحف والكتب أو تلك التى يتردد صداها فى الهواء.. ومع ذلك لا يوجد هناك ملل من الكلام.. أحيانا يسوقنى قدرى لمشاهدة بعض البرامج الحوارية التى تروج فى التلفاز هذه الأيام، فأشعر بالضحك والإشفاق، حيث يبدو المتحدث متأنقا للغاية، يتصنع الاهتمام فى غير موضوع، يقطب ما بين حاجبيه دون حاجة، يبدأ كلامه بصيغة: «فى الواقع» أو «فى الحقيقة» حتى يعطيك إحساسا بأن ما يقوله هو الصواب بعينه أو الفريد فى بابه.. والمحاورة أو المحاور - بكسر الواو - قد يظهر اهتماما أو حرصا بما يقوله الضيف، غير أنه يقاطعه بحدة وبدون معنى، وقد يقوم بإحراجه، مع استرسال فى الكلام دون مبرر، وكأنه هو الآخر يريد أن يقول: «أنا أيضا موجود»! بالطبع هناك برامج حوارية جادة ورائعة، لكنها - للأسف - قليلة، شأن عناصر الامتياز دائما. أنا لست بذلك أريد أن يمتنع الناس عن الكلام أو الكتابة، فذلك غير ممكن، ولا هو مطلوب.. أنا فقط أريد وقفة ومراجعة.. هل من الممكن أن يستمر الحال هكذا؟ هل صرنا أسرى عملية اجترار وتكرار ممل وسقيم لموضوعات تافهة وغير ذات قيمة؟ ما هذا الذى نفعله فى أنفسنا؟ إن الأسئلة التى أتلقاها بين الحين والآخر من بعض الصحفيين تدعو إلى الرثاء، فهى أسئلة مكرورة وتدل على حالة من التصحر السياسى.. بالتأكيد هناك مشكلات حقيقية موجودة على المستوى المجتمعى العام، سياسية واقتصادية واجتماعية، وهذه المشكلات تحتاج ألا نمل من الحديث عنها أو الكتابة فيها، ولا ينبغى أن نخضع للمنطق السائد منذ فترة: «دع الناس يتكلموا، ونحن - أهل الحكم - نفعل ما نريد».. إن الطرق على الآذان أمرّ من السحر كما يقولون، لكن حبذا لو كان كلامنا متسقاً مع القدرة على الفعل، إذ لا فائدة فى كلام لا يمكن تجسيده أو ترجمته على أرض الواقع.. نريد كلاما رصينا، موضوعيا، جادا، هادفا يرقى بثقافة الشعب المصرى، الذى يتعرض منذ فترة لعمليات مسخ لفكره وثقافته، تغييب لعقله وذاكرته، إبعاده عن تراثه وتاريخه، إلهائه بمشكلات وأزمات يومية، فضلا عن سياسة القمع والبطش والتخويف التى تمارس ضده. مما سبق أقول: نحن فى حاجة ماسة إلى ترتيب أولوياتنا، وبأى القضايا نبدأ.. نحن نسمع ونقرأ الآن كلاما حول تعديل الدستور، خاصة المواد 76، 77، 88، وهذا كلام جيد، بل هو مطلوب فى هذه المرحلة وفى غيرها من المراحل، لكن علينا ألا ننسى أو نغض الطرف عن ضرورة وحتمية إيقاف العمل بقانون الطوارئ.. بذلك نكون قد وضعنا الحصان أمام العربة، وبدأنا الخطوة المهمة على الطريق الصحيح.. علينا أن نبين للشعب المصرى وللدنيا كلها آثار وتجاوزات واعتداءات وكوارث ومآسى العمل بهذا القانون فى حق الإنسان والوطن.. وقبل أن نطلب من الشعب شيئا، دعونا نلتف جميعا، كتابا وساسة ومفكرين، حول هذه القضية، ونظل نتكلم حولها ونتحرك من أجلها.. نعقد لها المؤتمرات والحوارات، مركزيا ولامركزيا، وأعتقد أننا سوف ننجح - ولو بعد وقت - فى إحراز تقدم فيها.. هذا النجاح سوف يعطينا ثقة فى أنفسنا، وسوف يغرى بالانتقال إلى قضية ثانية وثالثة، وهكذا. نحن فى مسيس الحاجة إلى ثقافة الحرية، لا ثقافة العبودية.. ثقافة الأحرار، لا ثقافة العبيد.. ثقافة الإقدام، لا ثقافة الإحجام.. ثقافة الإيجابية، لا ثقافة السلبية.. ثقافة الشجاعة، لا ثقافة الخوف.. ثقافة المصلحة العامة، لا ثقافة المصلحة الخاصة.. إن العبيد لا يصنعون وطنا، لا يبنون قيمة، لا يدافعون عن كرامة، لا يحمون مقدسا.. الأحرار فقط هم وحدهم القادرون على ذلك.. رضى الله تعالى عن الفاروق، ثانى الراشدين، لقد أرساها دستورا وقانونا، وجعلها أصلا ومعلما، وصنع منها تاجا للعزة والمجد والفخار.. أرسلها عالية مدوية حتى يسمعها القاصى والدانى، الحاكم والمحكوم، هنا وفى كل مكان، اليوم وغدا وعبر الأيام والأزمان: «أيا عمرو.. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»، لقد صك القبطى بشكواه سمع الفاروق.. أوجع قلبه.. قضَّ مضجعه.. هز فؤاده.. يقول الفاروق للقبطى: «خذ الدرة واضرب ابن الأكرمين» (!)، ثم يقول: «خذها وأعل بها صلعة عمرو فإنه لم ينل منك إلا بسلطان أبيه». منذ أيام نشرت الصحف خبر الطبيب الشاب طه عبد التواب الذى سيق إلى أحد مقار مباحث أمن الدولة حيث تم تعذيبه بسبب إعلان تضامنه بشكل سلمى مع الدكتور البرادعى.. والقصة تحدث كثيرا، وهى تعبير عن سياسة نظام، لكن الكارثة الكبرى أن الخبر يمر - عادة - ولا يحرك فينا ساكنا.. قد نمصمص شفاهنا، أو تتألم نفوسنا، أو نتناول فيما بيننا عبارات استنكار هامسة، وينتهى الأمر عند هذا الحد لكى تطويه صحائف النسيان كما طوت غيره.. إن المستهدف من وراء تعذيب هذا الطبيب هو رسالة تخويف وتفزيع لشعب مصر، كى يضع فى حسبانه أن هذا هو المصير الذى ينتظره.. لذا أقول: إن الاعتداء على مواطن هو فى الحقيقة اعتداء على الوطن كله.. هو إهدار لكرامة مجتمع بأسره.. ولا يتصور أحد - كائنا من كان - أنه بمنأى عن الاعتداء أو لديه حصانة ضد إهدار الكرامة.. إن البيان الذى أصدره البرادعى منذ أيام بشأن ما حدث لهذا الشاب أو يحدث لأى شاب يستحق الإشادة والتقدير، ويجب أن يكون بداية لوقفة جادة على مستوى مؤسسات المجتمع المدنى كافة دفاعا عن الحق والعدل والحرية.. وأقول أيضا: إن مد العمل بقانون الطوارئ هو استمرار لتكريس سياسة الخوف والسلبية والانكفاء على الذات.. هو استمرار لمزيد من التخلف والتراجع والتبعية.