أخرج حسن نصرالله منديله، وأخذ يمسح العرق عن جبهته، بينما كل قلقه أن يظن أحد أنه يجفف دموعه على نجله «هادى»، الذى استُشهد قبل قليل. جهز نفسه بحيث يخرج فى هذا المؤتمر الصحفى رابط الجأش، وأن يتكلم كأمين عام لحزب الله، لا كوالد «هادى»، فقد عزم ألا يبدو كأب مكلوم فقد ابنه شهيدًا فى مواجهة عسكرية مع الإسرائيليين. لكنه فى ذلك الوقت المبكر من عام 1997، لم يكن معتادًا- فيما يبدو- على أدوات الإضاءة التلفزيونية الغامرة التى تُسلط على وجوه المتحدثين، والتى تدفع البعض إلى التصبب عرقًا، وتسوق آخرين إلى التألم صُداعًا، وتقود غيرهم إلى الجنون تهوُّسا بالشهرة. وفاة هادى، وإن فصمت عُرى الأب، فقد منحت الكثير من المصداقية لهذا الشاب اللبنانى، الذى جاء لسدة الحزب عام 1992 بعد استشهاد عباس الموسوى، الأمين العام الثانى للحزب، بعد صبحى الطفيلى. وباتت المقارنة منعقدة بين «نصرالله» وبين آخرين عرب، بينما قدم نصرالله ابنه شهيدًا فى الصفوف الأولى من المواجهة. بل تعمقت المأساة حين رفض مبادلة جثمان ابنه بجثامين إسرائيلية لدى الحزب، فى صفقة خاصة، ولم يسترد الرفات إلا عام 2004 فى مبادلة شاملة بين الحزب وإسرائيل، بعد خطاب مؤلم تخلى فيه عن أفضلية استرداد جسد ولده دون بقية مقاتلى الحزب. وبدأ زمن نصرالله وفارق سهمه الوتر، بينما يحرر الجنوب اللبنانى عام 2000، ويخوض حرب يوليو 2006 ليتحول فى أعقابها كما أطلق عليه أنصاره ومحبوه «سيد النصر الإلهى». وبطبيعة الحال سيتوجه نظر كثير من شباب هذا الإقليم الرازح حينها تحت حكم عدد من الوجوه التى استمرت عقودًا فى كراسيها، إلى هذا «السيد» الأربعينى، الذى تمكن من مواجهة إسرائيل، وخرج فى خطابات مطولة آسرة يرتجلها دون أن يتلعثم أو يرف له جفن أو تتوه منه معلومة أو يرتبك فى إيصال رسالة. وسيتمكن من اجتذاب إعجاب كثيرين سواء منضوين تحت راية جماعات إسلامية سنية، أو حتى من شباب قومى وعروبى، بل حتى وصولًا إلى تكتلات يسارية عريضة. وسيبدو قريبًا- رغم انتقادات عنيفة وكثيرة ومتواصلة- إلى مفهوم «البطل العربى». لكن الزمان لا يمضى هكذا، دون تعقيد مربك للخيوط الدرامية ودون مساءلات وامتحانات قاسية، ففى أعقاب 2011 سينخرط الحزب فى سوريا مناصرًا نظام بشار الأسد، بما سيترتب عليه إضرار بالغ بصورة نصرالله، الذى سيتحول فى نظر كثيرين من «سيد النصر الإلهى» إلى جزار والغ فى دماء السوريين. ولما كانت الثورة السورية متجاذبة من أطراف عدة، سنية وشيعية، عربية وفارسية وتركية ورومية!، مقاومة وإرهابية ومعارضة وخائنة، فقد «البطل» كثيرًا من رونقه، وسط ضباب «الحالة السورية»، التى تغيرت مواقفنا منها ورؤانا لها عدة مرات على مدار سنين. وبدا أن «السيد» مجرد «إسلاموى» آخر يقف على رأس ميليشيا، لا فارق بينه وبين الإخوان وحماس وداعش وجبهة النصرة والقاعدة. ومع الإحباط العربى من تجريب الإسلاميين فى عدد من البلدان فى أعقاب الربيع العربى، حُوسِب نصرالله حساب الملكين من جماهير غاضبة من «إسلاميين» بأكثر مما كانت غاضبة- قديمًا- من أنظمتها التقليدية المُسِنّة الفاسدة التى ثارت عليها. وسبحان مَن يغير ولا يتغير!. لكن ظل «نصرالله» بالرغم من كل هذا قادرًا على الطفو، لا بسباحة واثقة ولا بغرق مرتبك، يبزغ نجمه كلما تغطرست إسرائيل، وتتوسل الجماهير صورته بوصفه «سيد النصر»، وينخسف كلما ألحت صورته كجزء من مشروع إيرانى انتهى بوقوع اليمن والعراق ولبنان وسوريا فى قبضة طهران. وعلى الأرجح كان هو الآخر مأزومًا بهذه التجاذبات، التى يدركها بذكائه الحاد، الذى يملأ عينيه ويطل من ثنايا كلماته، لكنه- ككل الحركيين البراجماتيين- لم يكن يملك ترف أى خيار رومانسى، أو احتمالية النزول على أى مسطرة صوابية سياسية، فإيران تمول الحزب من كسرة الخبز إلى طلقة البندقية. وفى مثل هذه الظروف لن تفحص اليد التى تساعدك، بينما قذائف تل أبيب فوق رأسك، وواقعك لا يسمح سوى بهروب دائم للأمام، سواء فى الداخل اللبنانى أو فى الوضع الإقليمى الحرج، وإسرائيل على مرمى حجر منك وأنت على مرمى حجر منها. اتسق نصرالله مع شيعيته، فطاوعته ثمارها دون تخطيط مسبق، فقد صدّر إدراكه للعالم بعيون، وإن كانت خارجة من غبار الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أنها غارقة حتى الثمالة فى أجواء الحوزة ودروسها ووعيها ب«التاريخ». فقد تمكن بالبلاغة- وإن من البيان لسحرًا- من استدعاء ميراث شيعى عاطفى لاهب.. ليخطب، فتتحول كل أرض إلى كربلاء وكل يوم إلى عاشوراء، وليظل هو فى إسقاط بارع- أقنعك بهذا أم لم يقنعك- فى مواجهة مستمرة مع يزيد العصر وكل عصر. وليحفظ الجميع من خطبه أن «الدم ينتصر على السيف»، وليردد ولتردد من ورائه الجماهير قولة الإمام الحسين بن على- رضى الله عنهما: «لا أرى الموت إلا سعادة ولا أرى الحياة مع الظالمين إلا بَرَمًا». وليستدعى كل امرئ فى مخيلته ظالميه، ولتتسع اللحظة ولتتحول إلى عزاء أربعينى يتداخل فيه نتنياهو مع يزيد بن معاوية، ولتتحول الضاحية الجنوبية وغزة إلى كربلاءات متناثرة، وليتحول كل شىء إلى حشو يضاهى اللحظة الشجنة الأولى من القرن الهجرى الأول، وليعيد إنتاجها مرات ومرات. أو هكذا فعل «السيد». وبنهاية تحمل رائحة الخيانة والخذلان، تتسق المضاهاة الدرامية المثالية، التى طالما أحل نفسه جزءًا منها، وليتحول من «السيد» إلى «الشهيد»، دون قدرة من معارضيه على التشكيك فى الأولى فى حياته، ولا التعليق على الثانية بعد مماته. وليتحصن بنهايته التراجيدية من كثير من المساءلات التاريخية الواجبة، وليحظى فى الوقت ذاته بالختام الدرامى اللائق بفتى الحرب الأهلية البرىء، الذى تحول إلى شاب الحوزة الطموح، ثم صار رجل الحزب القوى، فالأب المكلوم، فالقائد الأسطورى، فالميليشى المأزوم، فالبطل الشهيد.. والله أعلم بالسرائر.