السيناتور الأمريكى جون ماكين زار بنغازى بهدف فصل شرق ليبيا عن غربها، والشىء نفسه يريده الرئيس الفرنسى ساركوزى، وبينما تندلع الثورة فى صعيد مصر بداية من توقيف القطارات فى أسيوط وشمال قنا فى ظل غباء سياسى منقطع النظير فى مصر، أتساءل من سيزور، يا ترى، محافظة قنا أو محافظة أسيوط لكى يفصل شمال مصر عن جنوبها؟ ربما لا يكون السيناتور ماكين أو الرئيس ساركوزى، ولكن فى ظل التجاهل الحادث من قبل المجلس العسكرى ومجلس الوزراء لما يحدث فى الجنوب المصرى، لا أستغرب أن تلعب أطراف خارجية بمقدرات مصر الوطن، ليس بهدف زعزعة استقرار مزعوم، ولكن لتفكيك بنية الدولة المصرية بحدودها القديمة منذ فجر التاريخ، وقد يظن المصريون- بتراخ فكرى وكسل عملياتى- أن هذا الأمر غير وارد حدوثه، لكن الحقيقة المرة هى أنه فى لحظات غياب قدرات الدولة تبدأ الأمور باحتجاجات جهوية ومناطقية ثم ما تلبث أن تتحول إلى نزعة انفصالية كما حدث لجنوب السودان أو لغربه فى كردفان ودارفور. ليس هذا بسيناريو مستبعد، إنه واقع قابل للتحقيق اليوم قبل غدا، والسبب الرئيس فى ذلك هو غياب الرؤية فى مصر فى وقت تعم فيه الفوضى وتسيطر عليه عقلية البقالين الباحثين عن المكاسب الآنية الصغيرة. هذه ليست أول ثورة فى قنا تدعو إلى الانفصال، فقد سبقها التمرد الجنوبى الكبير فى إعلان شيخ العرب همام جمهورية فى سوهاج، وكانت جرجا وبرديس والبلينا مراكز القرار قى تلك الفترة، كما أن تمردا آخر عم مصر فى 1867 فى عهد الخديو إسماعيل قاده شيخ اسمه الطيب، وقام أفندينا الخديو بإرسال تجريدة (قوة عسكرية) لإخماد ثورة الطيب فى الصعيد، وحرق جيش الخديوى فيها قرى السلامية والبعيرات وغيرهما من قرى شمال قنا عند فاو بحرى وعند الأقصر، ولما سألت شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب (الذى لم يكن شيخا للأزهر يومها) عن هذا التمرد فى بحث كنت أقوم به عام 1997 فى أوج عنف الجماعات الإسلامية فى الصعيد، عما إذا كان الشيخ الطيب المذكور فى كتب التاريخ هو جده، أجابنى الدكتور الطيب بأنه لا ينتمى إلى عائلته وهو من شرق النيل بينما عائلة الإمام من غرب النيل. كانت نظريتى يومها والتى نشرتها بالإنجليزية هى أن ما يقوم به نظام مبارك ضد الإسلاميين فى الجنوب فى أوائل التسعينيات من اعتقال وقتل ومطاردة لا يختلف كثيرا عما قام به الخديو إسماعيل تجاه جماعة الشيخ الطيب التى بدأت فى شمال قنا فى قرية المراشدة، وانتهت فى البعيرات فى الأقصر، والمسافة بين القريتين تصل إلى مائة كيلو متر فى أطول محافظة فى القطر المصرى. الآن المراشدة جزء من محافظة قنا بينما البعيرات جزء من محافظة الأقصر بعد أن قسمت محافظة قنا إلى محافظتين، الأقصروقنا. ورغم أن هذا سياق تاريخى معقد، إلا أن النقطة الأساسية هى أن تمرد الإسلاميين فى الصعيد منذ السبعينيات وحتى التسعينيات لم يكن تمردا إسلاميا بقدر ما هو احتجاج جهوى ومناطقى ناتج عن تجاهل الدولة المركزية المصرية لشؤون الأطراف فى الصعيد، ونتيجة لهذا التجاهل وحياة الضنك التى عاشها الصعايدة، قامت حركات التمرد فى الصعيد، ومنها الجماعات الإسلامية التى قتلت السادات فى الثمانينيات، إلى حركات الإسلام السياسى فى التسعينيات التى قام مبارك بسحقها. كل هذا التمرد كان بهدف لفت نظر القاهرة للظلم الواقع على أهالى الجنوب. لم يستجب إسماعيل باشا ولم يستجب مبارك وكانت نهايتهما فيها من التشابه الكثير. المهم فى كل هذا هو القول بأن مشاكل قناوأسيوط ليست مشاكل عارضة وليست مشكلة محافظ قبطى رفضه أهالى قنا، ولكنها مشكلة بنيوية فى الدولة المصرية وتطورها وليست بعيدة (دا للى عاوز يفهم) عن مشكلة بنغازى مقابل طرابلس أو جنوب اليمن وشماله أو حتى جنوب السودان وشماله إذا ما قرر أحدنا أن ينظر إلى السيناريوهات الأسوأ. بالطبع هذا الكلام لن يكون مفهوما من قبل النخب المصرية التى تعودت على ترديد الأكليشيهات كبديل عن قراءة التاريخ الاجتماعى لمصر. قنا ليست مشكلة محافظ قبطى، بل هى مشكلة وطن، ولو تركناها قد تصل فى ظروف اللخبطة الراهنة التى تلف المنطقة إلى حالة الانفصال، فكل شىء مهما يكن عجيباً ممكن الآن فى منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا أدعو المجلس العسكرى والقائمين على الحكم فى مصر أن يتنبهوا وبحذر شديد لإمكانية تفتيت الدولة المصرية، فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من زيارة لقائد أجنبى ودعم مادى لأهالى جنوب مصر حتى نقول على مصر- التى نعرفها- السلام. فى ظل هذا التهديد الوجودى للدولة المصرية واستقرارها أدعو الجيش المصرى لفض المشهد فى قنا لأن الأمر لا يحتمل التأخير ولا التأجيل. الأمر أخطر من أن يترك لشاشات التليفزيون المصرى لمناقشته من أناس لا يعرفون الجنوب وتاريخه، إننى أدعو المشير طنطاوى وقادة المجلس العسكرى، أدعوهم بصفتى جنوبيا ومن أبناء قنا أن يتخذوا قرارا جريئا وحاسما تجاه قنا قبل أن ينفرط عقد الدولة المصرية، فهل يقرأ المجلس العسكرى، وهل يتحرك المشير؟