السيناتور الأمريكي جون ماكين زار بنغازي بهدف فصل شرق ليبيا عن غربها، والشيء نفسه يريده الرئيس الفرنسي ساركوزي. وبينما تندلع الثورة في صعيد مصر بداية من توقيف القطارات في اسيوط وشمال قنا، في ظل غباء سياسي منقطع النظير في مصر، اتساءل من سيزور، يا تري، محافظة قنا أو محافظة اسيوط لكي يفصل شمال مصر عن جنوبها؟ ربما لا يكون السيناتور ماكين أو الرئيس ساركوزي، ولكن في ظل التجاهل الحادث من قبل المجلس العسكري ومجلس الوزراء لما يحدث في الجنوب المصري، لا أستغرب ان تلعب اطراف خارجية بمقدرات مصر الوطن، ليس بهدف زعزعة استقرار مزعوم، ولكن لتفكيك بنية الدولة المصرية بحدودها القديمة منذ فجر التاريخ. وقد يظن المصريون، بتراخ فكري وكسل عملياتي، ان هذا الامر غير وارد حدوثه، لكن الحقيقة المرة هي انه في لحظات غياب قدرات الدولة تبدأ الامور باحتجاجات جهوية ومناطقية، ثم ما تلبث ان تتحول الي نزعة انفصالية كما حدث لجنوب السودان أو لغربه في كردفان ودارفور. ليس هذا سيناريو مستبعدا، انه واقع قابل للتحقيق اليوم قبل الغد. والسبب الرئيسي في ذلك هو غياب الرؤية في مصر في وقت تعم فيه الفوضي، وتسيطر عقلية البقالين الباحثين عن المكاسب الآنية الصغيرة. هذه ليست اول ثورة في قنا تدعو الي الانفصال، فقد سبقها التمرد الجنوبي الكبير في اعلان شيخ العرب همام جمهورية في سوهاج، وكانت جرجا وبرديس والبلينا مراكز القرار في تلك الفترة، كما ان تمردا آخر عم مصر في 7681 في عهد الخديو اسماعيل قاده شيخ اسمه الطيب، وقام افندينا الخديو بارسال تجريدة »قوة عسكرية« لإخماد ثورة الطيب في الصعيد، وحرق جيش الخديو فيها قريتي السلامية والبعيرات وغيرهما من قري شمال قنا عند فاو بحري وعند الاقصر. ولما سألت شيخ الازهر الدكتور احمد الطيب »الذي لم يكن شيخا للازهر يومها« عن هذا التمرد في بحث كنت اقوم به عام 7991 في اوج عنف الجماعات الاسلامية في الصعيد، عما اذا كان الشيخ الطيب المذكور في كتب التاريخ هو جده، اجابني الدكتور الطيب بأنه لا ينتمي الي عائلته، وهو من شرق النيل، بينما عائلة الامام من غرب النيل. كانت نظريتي يومها، التي نشرتها بالانجليزية، هي ان ما يقوم به نظام مبارك ضد الاسلاميين في الجنوب في اوائل التسعينيات من اعتقال وقتل ومطاردة لا يختلف كثيرا عما قام به الخديو اسماعيل تجاه جماعة الشيخ الطيب التي بدأت في شمال قنا في قرية المراشدة وانتهت في البعيرات في الاقصر، والمسافة بين القريتين تصل الي مائة كيلومتر في اطول محافظة في القطر المصري. الآن المراشدة جزء من محافظة قنا، بينما البعيرات جزء من محافظة الاقصر، بعد ان قسمت محافظة قنا الي محافظتين الاقصروقنا. وعلي الرغم من ان هذا سياق تاريخي معقد، فان النقطة الاساسية هي ان تمردا الاسلاميين في الصعيد منذ السبعينيات وحتي التسعينيات لم يكن تمرد اسلاميا، بقدر ما هو احتجاج جهوي ومناطقي ناتج عن تجاهل الدولة المركزية المصرية شئون الاطراف في الصعيد، ونتيجة لهذا التجاهل وحياة الضنك التي عاشها الصعايدة، قامت حركات التمرد في الصعيد، ومنها الجماعات الاسلامية التي قتلت السادات في الثمانينيات الي حركات الاسلامي السياسي في التسعينيات التي قام مبارك بسحقها. كل هذا التمرد كان بهدف لفت نظر القاهرة للظلم الواقع علي اهالي الجنوب. لم يستجب الخديو اسماعيل ولم يستجب مبارك، وكانت نهايتهما فيها من التشابه الكثير. المهم في كل هذا هو القول ان مشكلات قناواسيوط ليست مشكلات عارضة وليست مشكلة محافظ قبطي رفضه اهالي قنا، ولكنها مشكلة بنيوية في الدولة العصرية وتطورها وليست بعيدة »ده للي عاوز يفهم« عن مشكلة بنغازي مقابل طرابلس او جنوب اليمن وشماله او حتي جنوب السودان وشماله اذا ما قرر احدنا ان ينظر الي السيناريوهات الاسوأ. بالطبع هذا الكلام لن يكون مفهوما من قبل النخب المصرية التي تعودت علي ترديد الكليشيهات كبديل عن قراءة التاريخ الاجتماعي لمصر. قنا ليست مشكلة محافظ قبطي، بل هي مشكلة وطن، ولو تركناها قد تصل في ظروف اللخبطة الراهنة التي تلف المنطقة الي حالة الانفصال، فكل شيء مهما عجب ممكن الان في منطقة الشرق الاوسط. ومن هنا أدعو المجلس العسكري والقائمين علي الحكم في مصر الي ان يتنبهوا، وبحذر شديد، لإمكانية تفتيت الدولة المصرية، فالامر لا يحتاج الي اكثر من زيارة لقائد اجنبي ودعم مادي لاهالي جنوب مصر حتي نقول علي مصر التي نعرفها السلام. في ظل هذا التهديد الوجودي للدولة المصرية واستقرارها، ادعو الجيش المصري لفض المشهد في قنا، لان الامر لا يحتمل التأخير ولا التأجيل. الامر اخطر من ان يترك لشاشات التليفزيون المصري لمناقشته من اناس لا يعرفون الجنوب وتاريخه. انني ادعو المشير طنطاوي وقادة المجلس العسكري، ادعوهم بصفتي جنوبيا ومن ابناء قنا الي ان يتخذوا قرارا جريئا وحاسما تجاه قنا قبل ان ينفرط عقد الدولة المصرية. فهل يقرأ المجلس العسكري؟ وهل يتحرك المشير؟ نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط