منذ نجاح الثورة فى قطع رأس النظام الهالك ودخولها المرحلة الثانية من رحلتها فى تطهير مؤسسات الدولة من فلوله والكل يعانى، فأذناب النظام داخل العديد من المواقع تعانى من رفض الناس لها وسعيهم الدؤوب إلى تطهير أرض مصر الطيبة منها، ومن آمنوا بالثورة وشاركوا فيها أو انحازوا إليها يعانون صراعاً مريراً من أجل التخلص من هذه الأذناب، أما القطاع الأكبر من السلبيين الذين لم ينخرطوا فى أى من الصفين: صف الثوار أو صف الفلول، فهم يعانون أيضاً من حالة القلق والارتباك، وأحيانا الخوف التى تسود حياتهم.. الكل يدفع الثمن: من ربح واستفاد من فساد العهد الماضى، ومن ثار وشرع يقاوم ويطهر، ومن وقفوا يتفرجون على أولئك وهؤلاء. وجوهر معاناة أهل الفساد من فلول نظام مبارك يرتبط بالوصول إلى لحظة الحساب، فقد رتع هؤلاء فى كل ناحية من بر مصر وفسدوا فيها وأفسدوها، وجمعوا الملايين والمليارات بغير حق، ولم يفكر أحدهم فى أن يوم الحساب آت، لأنهم عاشوا سنين طويلة بمنطق صاحب الجنة (الحديقة) الذى يصفه الله - تعالى - فى سورة الكهف - بقوله: «ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا». فالسر فى استمراء الفساد يرتبط بالاستخفاف بفكرة «الحساب»، والظن الخاطئ بأن ساعته بعيدة أو لا تأتى أبداً (وما أظن الساعة قائمة). وها نحن أولاء نشاهد اليوم ما لم يكن يخطر ببال أحد.. رجال العصر السابق بداية من مبارك وأفراد عائلته، مروراً بوزرائه ومسؤوليه ورؤساء مجالسه التشريعية ورئيس ديوانه، ورجال أعماله - رهن الحبس أو المطاردة.. نراهم وقد سقطت الأصباغ عن وجوههم وشعورهم وبانوا على حقيقتهم وغرقوا فى بحار المعاناة «ذق إنك أنت العزيز الكريم». أما لب معاناة من آمنوا بالثورة ويريدون استكمال مشوارها، فيرتبط بالرغبة العميقة والصادقة فى تغيير الأوضاع. لقد نجحت الثورة فى قلع الرأس وهو الأمر السهل، لكن الأصعب منه هو قلع الجذور المتمثلة فى عشرات الآلاف من القيادات الكبرى والوسطى والصغرى، التى زرعها الحزب الوطنى وزرعها جهاز أمن الدولة فى كل حدب وصوب، ويتعجب الثوار من صعوبة خلع تلك الجذور قياساً إلى سهولة خلع الرأس، والمسألة لا تستوجب الدهشة أو التعجب، فالمدفون تحت الأرض والممتد بأفرعه فى اتجاهات عديدة يصعب التعامل معه قياساً إلى الشخص الظاهر والواضح والبادى للعيان.. كثير ممن يؤمنون بالثورة يخشون عليها – وعندهم حق فى خوفهم – من تلك الفلول التى تنتشر فى أماكن عدة، لكن عليهم أن يطمئنوا إلى أن النصر النهائى سوف يكون لهم ما داموا قد ظلوا مصرين على اجتثاث هذه الجذور التالفة، وعليهم أن يعلموا أن هؤلاء لا يحرصون على تأمين مناصبهم ومواقعهم – كجزء من السعى للمحافظة على النظام البائد- قدر ما يحرصون على الهروب وكذلك التهريب الآمن لما جمعوه من مال حرام خلال السنوات الماضية. نأتى بعد ذلك إلى السلبيين، وهؤلاء حكايتهم حكاية، فهم القطاع الأكبر من المصريين، ورغم كراهية هؤلاء للنظام السابق، فإنهم رضخوا لمحاولاته الفاشلة فى الاحتفاظ بالرئيس المخلوع قبل الحادى عشر من فبراير، من خلال التخويف والترويع وحرق أعصابهم بالحديث عن الأمن الغائب، والمجاعة التى سوف ندخل فيها بسبب وقف الحال على المستوى الاقتصادى، ومشكلة عدم انتظام الدراسة فى المدارس، وغير ذلك من أفكار تم توظيفها فى اللعب بأعصاب الكثيرين، ولم يتوقف الأمر بعد نجاح الثورة فى الإطاحة بمبارك حين بادرت الفلول إلى النزول بالعديد من الكروت المحروقة، مثل كارت الفتنة الطائفية، ثم كارت الترهيب ببقايا الأمن، ثم كارت الإخوان والتيارات الإسلامية، ثم كارت الفتنة بين السلفيين والصوفيين وغير ذلك، والكارت الذى ينزل إلى الملعب يتم حرقه، لكن بعد أن يقوم بدوره فى «حرق» أعصاب الجموع السلبية.. تلك الجموع التى يتمثل جوهر معاناتها الآن فى حالة الترويع التى يشعرون بها من حين إلى آخر لتهد عليهم رغبتهم فى تحقيق نوع من الاستقرار أو الأمان الزائف. الكل يدفع الثمن، أذناب النظام السابق تدفع ثمن فسادها، والثوار يدفعون ثمن إيمانهم بقضيتهم، والسلبيون يدفعون ثمن تقاعسهم وتخاذلهم عن التحرك من أجل التغيير فى البداية والمساهمة فى استكمال مشوار التغيير فيما بعد، وإذا كان لكل ثمن مقابل فعلينا أن نثق فى أن الثمن الذى يدفعه «المطاردون» نظير فسادهم وإفسادهم لن يقابله إلا المزيد من المعاناة والكثير من المطاردة حتى يحاسبوا على جرائمهم فى حق هذا الوطن، كذلك السلبيون المتخاذلون لن ينالوا طمأنينة بعد خوف ولا أماناً بعد ترويع، لأنهم عاشوا عمرهم مستسلمين لفكرة الخوف من كل ما حولهم ومن حولهم، ومهما تعدلت الأمور وتبدلت الأحوال فسوف يظل هؤلاء على رعبهم، ويلخص موقفهم هذا السطر الشعرى الذى كتبه المبدع محمد إبراهيم أبوسنة من سنين طويلة وقال فيه: «لن يرحم الموجُ الجبان.. ولن ينال الأمن خائف». الطرف الوحيد المستريح وسط التعب، والآمن وسط الخوف، والواثق من النصر، هو من آمن بالثورة وسار فى طريقها، لأنه ببساطة لا ينتظر مقابلاً للجهد الذى يبذله فى الصراع الذى يخوضه، فنجاح الثورة فى إصلاح الأوضاع هو قمة منى المؤمنين بها وليس البحث عن الأدوار، ومهما طال الأمد برحلة الصراع مع بقايا النظام فعلينا أن نصبر ولا نستعجل النتائج، ولنعلم أن النصر هو النتيجة الطبيعية لأى سعى مخلص ومنزه عن الغرض، ويجب ألا ننسى أن ذرة من الإيمان بالمبدأ وبالموقف كفيلة بتفجير الصخور الصم، وليس أدل على ذلك من نجاح من احتشدوا فى التحرير فى الإطاحة بأعتى الطغاة، وسوف يكمل المشوار حتى لا يبقى من فلول هذا النظام سامٍ ولا عزيز!