أثارت القضية التى عُرفت باسم «تسريبات النشطاء» حالة من الجدل، وامتدت تفاعلاتها لتتوزع على مجالات عديدة، منها السياسى والمهنى والقانونى والأخلاقى. أراد عدد كبير من الزملاء الصحفيين معرفة تقييمى لتلك القضية، لكن أغلبهم كان يريد أن يحصل على موقف مباشر وحاد، أى إجابة حاسمة، إما بالموافقة والترحيب، أو بالرفض والإدانة. والواقع أن المسألة أصعب من ذلك، وأكثر تعقيداً. تقع قضية التسريبات بين أربعة اعتبارات رئيسة، أولها الاعتبار المهنى، الذى يتصل بقواعد مثل احترام حرمة الحياة الخاصة، فى مقابل حق الجمهور فى المعرفة. وثانيها الاعتبار القانونى الذى يتقاطع مع مثل تلك الحالات. وثالثها اعتبار السوق، حيث تمنح التسريبات الوسيلة الإعلامية التى تنشرها رواجاً وانتشاراً. ورابعها الاعتبار السياسى، إذ عادة ما تستخدم التسريبات ذات الطبيعة السياسية فى عمليات الصراع على السلطة والتضاغط بين أصحاب المصالح. وبين هذه الاعتبارات الأربعة سيمكننا تقييم القضية على النحو التالى: - تأتى تسريبات مكالمات النشطاء، ضمن حالة الاستقطاب والصراع السياسى، التى تشهدها مصر فى أعقاب 30 يونيو 2013. - تنطوى التسريبات المشار إليها على جريمة مكتملة الأركان، ومخالفة قانونية ودستورية، تتمثل فى انتهاك حرمة الحياة الخاصة لمواطنين مصريين، وتسجيل مكالماتهم الهاتفية، وإذاعتها، وهى جريمة تخص هؤلاء الذين سجلوا هذه المكالمات دون إذن قضائى، والذين سربوها إلى الجهات الإعلامية، ويجب أن تخضع لتحقيق شفاف، ينتهى بمعاقبة مرتكبيها. - تم استغلال هذه التسريبات فى تلطيخ سمعة الأشخاص الذين تخصهم، دون أن تنطوى على اعتبارات موضوعية يمكن أن تقودهم إلى محاكمات، فى أغلب الأحيان، وإلا كان من الأولى على الجهات التى تمتلكها، وقامت بتسريبها، أن تتقدم بها إلى القضاء. - من حق الصحفى الذى وصلت إليه مكالمات خاصة من مصدر ما أن يذيعها على الرأى العام، طالما أنها تتعلق بجريمة، أو تتقاطع مع مصلحة عامة تقاطعاً مباشراً، أو تؤثر تأثيراً واضحاً وخطيراً فى مصالح جمهوره. لكن يجب على هذا الصحفى أن يتأكد من أن تلك المكالمات تنطوى على جريمة أو مخالفة مثلاً، وهو أمر لم يحدث فى أغلب ما أذيع من مكالمات، وأن يتأكد من أن الفرصة أتيحت لمن تخصهم للدفاع عن أنفسهم، وتوضيح مواقفهم للرأى العام، وهو أمر لم يحدث أيضاً. وأخيراً ألا يذيع أى جزء فى مكالمة خاصة تخص المصلحة العامة، دون أن ينطوى على فائدة موضوعية محددة، وهو الأمر الذى لم تتم مراعاته فى كثير من المكالمات التى أذيعت فى سياق تلك القضية. - استندت عملية نشر تسريبات النشطاء إلى القليل من المعايير المهنية، وأغفلت الكثير منها، وهى وإن انطوت على جريمة ارتكبها مسجلو المكالمات ومسربوها، فإنها من الناحية الإعلامية لا تعد فى حد ذاتها جريمة، وإنما مجرد تجاوز مهنى حاد، لأن بعض القيم المهنية تجيز إذاعة مثل تلك التسريبات، فى حال إذا تقاطعت مع المصلحة العامة، لكنها لا تجيز إذاعتها على النحو الذى جرى. وأخيراً، فإن من سرّب التسجيلات حصد مكاسب كبيرة، كما حققت الوسيلة الإعلامية التى أذاعتها رواجاً أيضاً، لكن تلك المكاسب معظمها غير أخلاقى، وغير مستديم بكل تأكيد.