كنت أتأمل كثيرا يا سيادة الرئيس في الواقع الاجتماعي المصري قديما وحديثا. قديما كانت الأسرة الريفية تخصص غرفة ضمن بيت العائلة لتكون هي منزل الزوجية للابن. الآن يمتلك أو يستأجر حديثو الزواج شققا كاملة مستقلة. ورغم ذلك، نرى الشكاوى والمشكلات تتزايد ولا تقلّ. شكاوى من غلاء المعيشة ومشكلات اجتماعية تتمثل في نسب طلاق مرتفعة خلال سنوات الزواج الأولى. لقد لعب الإعلام ولا شكّ دورا في أن يقارن الناس ما هم عليه وما عليه الآخرون، ثم في تفسير الاختلاف عن هؤلاء (الآخرون)، ثم في توجيه ردة الفعل نحو هؤلاء (الآخرون)، وسمعت من مسؤول بشركة بروكتل آند جامبل(P&G)ما يؤكد تأثير الإعلام حتى على الطبقة البسيطة من عوام الشعب، وهي شركة رائدة في توظيف الأبحاث المتعلقة بالمستهلك. أميل كثيرا للجانب النفسي في تحليل الأمور خصوصا وأن مدرس الأمس كان قليل الراتب كما هو اليوم، فلماذا بالأمس لا دروس خصوصية بينما اليوم دروس وفلوس؟ إن الكرامة والعزيمة والاحترام والفخر والانتماء، هي معانٍ نفسية غير ملموسة، إلا أنّ وجودها يعزز الشعور بالأمن ويغير من تصرفات الإنسان إيجابيا بشكل جذريّ، وفي هذا الإطار أفهم كيف نجحتَ يا سيادة الرئيس في خرق معدلات التدريب المتعارف عليها أثناء تجهيزك للقوات الجوية لكي تعاون باقي الجيش في العبور والنصر، فلو لم تكن هنالك عزيمة وفخر ومن قبلُ قائدٌ و رئيس عظيمان، لما كان هنالك تدريب خارق واستعداد فائق. هذه المعاني المعنوية غير الملموسة كانت تندثر من وسائل الإعلام يوما بعد يوم ويطمسها خبر هنا أو هنالك بحيث أمست الآلة الإعلامية المصرية تعمل بنظام ردة الفعل. غياب المؤسسات الصغرى (بدء من اتحاد الملاك) لصالح المؤسسة البيروقراطية الوحيدة (الشرطة)، وانهيار الأخيرة جعل الكل في مأزق، فلا أحزاب سياسية منتشرة، ولا جمعيات مدنية مفعلة، ولا أندية شبابية عامرة. وفاقم من المأساة أن الجهاز الشرطي كان متضخما حقا وكان فاقد الصلة بالمجتمع المحيط (وفي نفس الوقت لا يتلقى معطيات طازجة من المجتمع معتمدا فقط على التقارير الروتينية فيما أتصور). فقدان الصلة ظهر في غياب علاقة مفترضة بين ضباط الأقسام من وجهة وبين المتاجر المجاورة أو أهالي الحي أو الشخصيات المؤثرة في دائرة القسم من جهة أخرى، فضلا عن أن مؤسسات المجتمع المدنيّ غير مفعلة بالكامل، ولذلك سيادة الرئيس كان من البديهي أن يكون مؤسسة البلطجية وأرباب السوابق هي الأسرع بالتحرك لحرق الأقسام ونهب السلاح ثم التحرك لإخراج من في السجون. في أحد الأيام كنت مع أصدقاء على الطريق الصحراوي وفوجئنا بتلال من الرمال على الحارة اليسرى ستسبب كارثة حتما لأية سيارة مسرعة، وقررنا إخطار أرقام الطواريء المدونة خلف إيصال دفع الرسوم من بوابة الطريق الصحراوي، وكانت الكارثة الأكبر سيادةَ الرئيس: الأرقام الأربعة كلها مرفوعة من الخدمة! سارعنا لإخطار بوابة الرسوم في طريق العودة فألقى المحصل باللائمة على هيئة الطرق والكباري ومكتبها في القاهرة، أما ضابط مرور البوابة فانشغل بالسؤال عن الاسم والمهنة، وكان أمامنا حل من اثنين: الأول تسريب الخبر لوسائل الإعلام لينشر شعورا سلبيا لدى المواطنين (وربما مع تصحيح الخطأ)، والثاني البدء في نشر فيديوهات توعية بالقيادة الآمنة على قناة يوتيوبية مع طرق أبواب المؤسسات ذات العلاقة لتنبيههم لتصحيح الخطأ، واخترنا الخيار الثاني. ذات يوم أتيحت لي مقابلة عمل عبر واسطة عائلية ورأيت كم أقابل بالترحاب في حين أن آخرين بالخارج (ربما أحق مني بالوظيفة) كانوا يقابلون بمستوى أقل ترحابا وعلى الفور أفصحت عن رفضي للعمل، وخرجت أفكر كيف أن الواسطة حقا تهدر فرصا كثيرة يستحقها من هم أحق بها وتسهم في قتل شعور المواطن في الانتماء. وقررت استغلال دراستي في ماجستير إدارة الأعمال لاستراتيجيات الموارد البشرية لبدء نشاط في مساعدة الباحثين عن عمل في العثور على وظيفة، أو بمعنى أدق: مساعدتهم في اصطياد السمك بدل من توفير السمك لهم، واخترت اسم الشركة الوليدة مصر الجديدة للاستشارات. رغم أني وبعد حصولي على ماجستير إدارة الأعمال انتقلت للعمل في قطاع تقنية الانترنت والتسويق عبر الشبكات الاجتماعية، إلا أنّ الفترة التي عملت خلالها في مجال تقديم استشارات التخطيط الوظيفي وآليات البحث عن عمل ومقابلاتي مع الشباب كشفت لي الكثير. لقد رأيت يا سيادة الرئيس كم هو جميل شباب مصر، وكم هو رائع، وكم هو حيوي ولديه طاقة وعزيمة قوية، لو أحسن استغلالها وتوجيهها وتثقيفها. حتى في المؤسسات الحكومية الروتينية، كنت ألمسُ رقيّا في تعاملي مع الموظفين الشبان هنالك، وكنت أجدهم على عكس الصورة الروتينية للموظف الحكوميّ. كان توفير الأمان (المعنوي على الأقل) لهؤلاء الشباب هو الضمانة الحقيقية لأمانٍ مصر سياسيا واجتماعيا، وكان غياب هذا النوع الدقيق والحساس من الأمن المتمثل في الأمل في المستقبل وَ روح الانتماء، كان غيابهما الوقود الأكبر للاحتجاجات، بل وفي تعاطف الكثيرين معها.