ربما أن الكثير من القراء قد سمعوا عن جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس، الذى تم اعتقاله من قِبل السلطات البريطانية منذ أيام.. ورغم أن الحيثيات المباشرة للقبض عليه تتعلق بتهم تحرش جنسى وُجهت إليه فى السويد خلال الصيف الماضى، فمن المعروف أن السلطات الأمريكية تدرس إمكانية طلب تسليمه، ليحاكَم بتهمة تسريب الوثائق الأمريكية السرية على موقع ويكيليكس، بل إن هناك الآن فى الولاياتالمتحدة من يطالب ب«رأس» أسانج، أى بإعدامه، ومن بين هؤلاء سياسيون مرموقون، مثل المرشحة السابقة لمنصب نائب رئيس الجمهورية، سارة بالين، وعضو الحزب الجمهورى، نيوت جينجريتش. لماذا فعل «أسانج» ما فعل؟ لماذا عرّض نفسه للخطر فى سبيل تسريب هذه الوثائق، رغم أنه ليس هناك عائد مادى لما فعله يمكن أن يعوضه عن الأخطار الناتجة من عملية التسريب تلك؟ ربما جزء من الرد على هذا السؤال يتجسد فى شخصية «أسانج»، التى يبدو أنها تتسم بالندية والكبرياء، بما قد يصل إلى حد الغرور الممتزج بنزعات بطولية متعلقة بحب الظهور والشهرة.. لكن هناك جانباً آخر لهذه الشخصية من المرجح أن يكون مهماً أيضاً، بل ربما هو الأهم، جانباً يتعلق بنظرة «أسانج» للعالم، أى النظرة الأيديولوجية التى تمتزج عادة بالدوافع الشخصية وتبررها. ما هى هذه النظرة؟ يعرض «أسانج» وجهة نظره تلك فى بعض المقالات التى كتبها فى شهرى نوفمبر وديسمبر من عام 2006، والتى تم نشرها على الإنترنت فى الصيف الماضى.. تتعلق هذه الكتابات ب«المؤامرة والحكم»، أى أن «أسانج» يعتقد أن أنظمة الحكم التسلطية - وهو يضع الأنظمة المسيطرة فى بلاد مثل الولاياتالمتحدة فى هذه الخانة - تعتمد على المؤامرة فى محاولتها لإخضاع الشعوب، داخلياً وربما أيضاً خارجياً، وكبت تطلعات الناس للحرية والعدالة.. أو بمعنى آخر، أن هذه الأنظمة تصنع فى السر خططاً من هدفها إيذاء مَنْ تحكمهم داخلياً أو مَنْ تريد السيطرة عليهم خارجياً. ويعتقد «أسانج» أن الشفافية هى الطريق الوحيد لفضح تلك المخططات، وبالتالى تحرير الإنسان من السلطة القمعية.. وذلك يبدو بديهياً بالطبع، بالذات بالنسبة لنا فى العالم العربى. لكن «أسانج»، الذى يقال إنه درس العلوم الرياضية بالجامعة، لديه نظرة دقيقة نسبياً لكيفية الوصول لهذا الهدف، فيشير إلى أحد أفرع تلك العلوم، الذى يتعلق بتقييم وحساب مدى تشابك عدد من العناصر داخل مجموعة مترابطة من الأشياء، و«العناصر» فى الحالة المعنية هنا هى دوائر السلطة فى العالم والأعضاء المنتمون لها، أما خيوط التشابك فتتجسد فى تدفق المعلومات السرية بينها، التى فى رأيه تحاك من خلالها المؤامرة، فكلما زاد عدد هذه القنوات واتسعت سعتها زاد كم المعلومات المتدفق من خلالها، وزادت قدرة الأنظمة السلطوية للتآمر على الشعوب والسيطرة عليها وقمعها. لذلك فإن الطريق نحو الحرية فى رأيه يبدأ (وربما ينتهى) بمحاولة فك تلك الخيوط وتدمير هذه القنوات.. ويعتقد «أسانج» أن هذا هو ما يفعله عملياً، عندما يفضح محتويات القنوات السرية عبر الإنترنت. هذه نظرية لافتة للنظر، لكن لو حاولنا تطبيقها على ما تم تسريبه على موقع «ويكيليكس» خلال الفترة الأخيرة، خصوصاً ما يتعلق منه بالعالم العربى، فسنجد أنه - حتى الآن على الأقل - لم يظهر أى شىء تقريباً قد يصدم المرء فى منطقتنا. فمثلاً، تم تسريب بعض الوثائق التى أشارت إلى محاولات دول عربية تحريض الولاياتالمتحدة على ضرب إيران مثلاً.. لكن رغم أن هذه الدول نفت دائماً تلك الاتهامات، فالكثير من الناس كان يعرف - أو على الأقل يشك - أن الحال عكس ذلك.. ونُشرت أيضاً وثيقة تتكلم عن الحفلات المنفلتة التى يقيمها بعض أعضاء النخبة السعودية، والتى تتدفق خلالها الخمور وتنتشر الفحشاء، وذلك فى بلد يعاقب القانون فيه بالجلد والرجم كل مَنْ شرب الخمر أو قام بأفعال فاضحة علنياً، بل بلد ينشر التفسير الرجعى المتحجر للإسلام فى العالم أجمع تقريباً.. مع ذلك، مَنْ فى عالمنا العربى قد يستغرب عند اكتشاف أن الحال كذلك؟! إضافة إلى أننا لسنا محتاجين ل«ويكيليكس» لكى نعرف مدى انتشار هذه الازدواجية بين المعايير العلنية والسرية، فكما أشرت فى مقالات سابقة فإنها موجودة ويمكن رصدها بسهولة فى تصرفات وتفوهات النخبة السياسية والاجتماعية فى مصر مثلاً، وفى قطر أيضاً، حيث توجد إحدى كبريات القواعد الأمريكية وقناة الجزيرة تحت مباركة نظام واحد! أما عن التجاوزات العسكرية الأمريكية، وتعاملات الولاياتالمتحدة السرية مع العرب وإسرائيل، فما نُشر فى هذه الإطارات لم يكن صادماً أيضاً. إن تسريبات «ويكيليكس» لم تصدم أحداً تقريباً فى العالم العربى، لأن نظرية المؤامرة هنا هى نهج تفسيرى شائع، فإذا ما أخذنا نظرية «أسانج» جدياً، يمكن استنتاج أن عدد الخيوط والقنوات التآمرية الموجودة بالفعل أقل بكثير مما هو معتقد عامة فى العالم العربى، على الأقل فيما يتعلق بعلاقاته بالخارج. من ثم ربما يجب علينا الكف عن التركيز على التفسير التآمرى للأمور، والانتقال لنهج سياسى واجتماعى يكون هدفه تفعيل الحد الأدنى من الشفافية، الغائب عن حياتنا من الأصل