مساء أمس الأول منعت الكنيسة مظاهرة كان يعدها نشطاء أقباط، للمطالبة بمحاكمة الأنبا بيشوى على محاضرته المثيرة للاستفهامات، إذن «الكنيسة تملك منع المظاهرات التى يحاول الأقباط تنظيمها داخلها أو أمام أسوارها».. تلك مجرد ملاحظة بسيطة على هامش القضية، لكنك حين تربطها بقدرة الأجهزة الأمنية على احتواء المظاهرات ذات الطابع السياسى المطالبة بالتغيير، أو المنددة بالنظام، وإجهاضها فى مهدها، أو التعامل معها بالشدة، بينما تترك المظاهرات ذات الطابع الطائفى من الجانبين دون تدخل، تكتشف أن ذلك هو صلب القضية وليس هامشها. قبل أن أخوض معك فى توضيح ذلك، لابد أن تدرك بديهية ثابتة، أن الأصل فى المؤمن أن يكون «كافراً» بعقائد الآخرين، الكفر بالشىء يعنى عدم الاعتقاد به، فالطبيعى جداً أن أكون مسلماً «كافراً» بعقائد الآخرين كفراً مطلقاً، وإلا لو اعتقدت للحظة أن عقيدة أخرى هى الأصح، لأصبح إيمانى محل شك، والعكس صحيح، فأى قناعة لدى مسيحى بصحة الإسلام، تستوجب أن تسأله، ولماذا لا تعتنقه وقد وصلت لهذه القناعة؟! تلك إذا بديهيات، والحق أننى وأنت والجميع «مؤمنون» بما نعتقد و«كفار» بما يعتقد الآخرون، لكنه ليس بالضرورة كفر العداوة والبغضاء، الذى يدفعك لاستعداء الآخر أو ازدرائه. لا مجال إذن لتقول بأنك تحاول التقريب بين الأديان، أو تدشين حوارات بينها هدفها الوصول إلى اتفاقات فى أمور تمس عقائد كل طرف، فمشيئة خالق هذا الكون أرادت هذا التنوع الدينى، ورفعت من قدر حرية الاعتقاد فى كل الشرائع، ولم تطلب من أحد أن يخوض فى دين الآخر ليحاكمه أو يفنده، وإن جرت تساؤلات - وأنت تحاول فهم عقيدتك - تخص عقائد الآخرين، فمكانها مسجدك أو كنيستك. لكن الأزمة أنك صرت تعيش فى مجتمع يندفع بفعل التشاحن السياسى والاحتقان الطائفى، إلى «تسييس» كل شىء، فينقل الأزمات الزوجية إلى ساحات التظاهر، وينقل التفاصيل «العقيدية»، التى من المفترض أن يكون مكانها بين المختصين، إلى العامة فى وسائل الإعلام جميعها. تلك الحالة المفرطة من التسييس هى التى تدفع رجال الدين «مشايخ وقساوسة» إلى تبنى مشروعات ذات طابع سياسى، والدخول فى سجالات «سياسية» متدثرة بغطاء الدين، حتى صار رجال الدين يخرجون إلى مريديهم كزعماء سياسيين، لا تجد فيما يقولونه وعظاً إلا ما ندر، لكن الأغلب الأعم من أحاديثهم ينطوى على سياسة مفرطة، إعلانات تأييد لمرشحين سياسيين، ومساجلات مع الآخرين، وحديث فى التوريث والانتماءات الحزبية، والمواقف السياسية. لن أقول لك إن «الدولة المدنية» هى الحل.. فهذا كلام مكرر، رغم أنه الحل الفعلى والوحيد والناجز، لهذه الأزمة وأزمات أخرى مرتبطة بالتحول الديمقراطى الكامل والحقيقى، لكننى سأقولها لك بوضوح، هناك من يقف ضد مدنية الدولة بعزم فعلى، بينما هو يؤيدها فى أحاديثه وشعاراته الاستهلاكية، ليس المتطرفون ولا المجتمع المتجه نحو تدين مظهرى بلا مضمون، لكنه القوى المحركة فى المجتمع، خاصة فى هذا الملف «النظام، والكنيسة، والإخوان».. الأخيرة لا تحتاج إلى تفصيل على الإطلاق، فالمعلن من خطابها يكفى، والنظام والكنيسة مساهمان فى إبقاء الجمر مشتعلاً، على الأقل بتجاهلهما الحل الجذرى، الذى يعنى أن يتخلى كل منهما عن كثير من العوامل التى ميزت مشروعه ومنحته نفوذه وقدرته على البقاء بالصيغة الحالية، هذا قد يفسر لك ما بدأت به هذه السطور، وإن لم يفسر، فانتظر ربما نناقش ذلك سوياً فيما بعد. [email protected]