ها هى الحرب البشعة على غزة تضع أوزارها، ولو مؤقتا، ويتبدد غبارها الأبيض والأسود، فتنجلى الحقائق، وتظهر النتائج، ويعرف كل طرف حصاد ما زرع. وما يؤسف ويدعو للغيظ أن أطرافاً كثيرة قد ربحت، ولم يخسر سوى مصر والمدنيين الفلسطينيين الأبرياء فى قطاع غزة، لكن عزاء هؤلاء هو أن للحرية ثمنها، وأن شعوب الأرض جميعاً دفعت من دمها وأمنها ومالها وجهدها كى تجبر الاحتلال على أن يحمل عصاه الغليظة ويرحل، وأن ألفاً ومائتين استشهدوا من الفلسطينيين هم فى النهاية قلة قياساً إلى أكثر من مليون جزائرى لقوا المصير نفسه فى حرب التحرير، وأكثر من مائة ألف فيتنامى فاضت أرواحهم الطاهرة حتى تخرج بلادهم منتصرة على الولاياتالمتحدة. أما مصر فتخسر ولا شىء يعوضها عما تفقده، ولا أحد يتخذ إجراءات حاسمة وحازمة فى سبيل وقف هذا النزيف. ففى الساعات الأولى من الحرب كان الإعلام العربى كله يعرض صورة وزير خارجيتنا وهو يمد يده لوزيرة خارجية الكيان الصهيونى، وكانت عبارته التى ألقى فيها باللوم والتبعة على حماس تسكبها الفضائيات فى آذان الجميع، فتطاول علينا من تطاول واتهمنا بالتواطؤ مع العدو، أو على الأقل العلم بما كان ينوى فعله والصمت على ذلك. وفى الساعات الأخيرة للحرب بدت مصر فى موقع المتهم فى نظر إسرائيل، لأنها إما رتبت لتهريب أسلحة إلى حماس، أو غضت الطرف عن هذا، أو عجزت عن تأمين حدودها وإغلاق الأنفاق التى تصل بين رفح المصرية وأختها الفلسطينية. وهذا الاتهام قد يُحسّن من صورة مصر فى نظر كل من هاجمها فى بداية المعركة، لكن ليس لدى الحكومة أى استعداد لتبنى هذه المسألة، نظرا للنتائج الخطيرة التى ستترتب على ذلك، ولذا فكل من يتحدث من المسؤولين الرسميين حول الموضوع ينفى أى إشارة من قريب أو بعيد إلى مساعدة مصر لحماس كى تحوز ما استعملته فى القتال من أسلحة بدت، كما وكيفا، أكبر مما كان فى حسبان الإسرائيليين. ومع هذا فتل أبيب لا تصدق ما ترويه مصر عن سيناريوهات وصول السلاح إلى غزة، والدليل على ذلك أن وسائل إعلام الكيان الصهيونى تتحدث جهارا نهارا عن خط تهريب يبدأ من إيران إلى السودان ثم إلى سيناء عبر البحر، ويقوم أفراد من قبيلة الترابين التى تقطن سيناء بحمله عبر الأنفاق إلى القطاع. عند هذا الحد فالأمر لا يمس مصر الرسمية، لكن إسرائيل تشكك فى جهل مصر لهذه العملية، وتقول إن الأمن المصرى الذى يتمتع بقدرات عالية يعرف كل شىء ويصمت. وكالعادة لم تهتم إسرائيل بالرواية المصرية التى تؤكد تهريب الأسلحة عبر البحر، وليست مستعدة أبدا لقبول سيناريو آخر يبين أن جزءا كبيرا من هذا السلاح جاء من داخل إسرائيل نفسها، فتجار السلاح لا وطن ولا عهد ولا ذمة ولا انتماء. وتستعيد الأذهان هنا ما قاله الرئيس ياسر عرفات ذات مرة من أن بوسعه أن يحصل على السلاح من جهات داخل إسرائيل ذاتها لو أراد، وذلك حين اتهمته تل أبيب بأنه صاحب شحنة الأسلحة التى كانت تحملها السفينة «كارين» القادمة من إيران وضبطتها تل أبيب بمساعدة المخابرات القطرية. كما لا تريد إسرائيل أن تصدق أن حزب الله تمكن من إيصال هذه الأسلحة إلى القطاع عبر أراضى إسرائيل بمساعدة عملاء من اليهود والعرب. ولأن الكيان الصهيونى يشك فى الجميع، ويتصرف على أساس أن كل من يحيطون به هم أعداؤه، مهما قدموا له من تنازلات أو تطمينات، فقد سارعت ليفنى لتلتقى نظيرتها رايس فى واشنطن قبل أن تغادر منصبها، غير مأسوف عليها، لتوقعا سويا «مذكرة تفاهم» لمنع السلاح عن غزة، لا تعرف مصر عنها شيئا، ولم تستشر فيها، رغم أنها هى المعنية بها، قبل أى طرف آخر، حتى إسرائيل نفسها. والغريب أن هذا تم فى وقت كانت مصر لاتزال تمد يدها ب «مبادرة» لوقف القتال فى غزة، أيدها مجلس الأمن فى قراره رقم 1860 واتخذ منها إجراء واضحا لتنفيذ هذا القرار. هذه المذكرة التى ترمى إلى حرمان الشعب الفلسطينى من كفاح مسلح مشروع للاحتلال، تلقفتها إسرائيل لتغطى بها على فشلها فى تحقيق الأهداف العسكرية فى ميدان غزة الصامد بعد ثلاثة أسابيع كاملة من القصف جوا وبحرا وبرا، وبأفتك الأسلحة، ولتورط بها مصر فى معركة سياسية وأمنية قادمة مع إسرائيل وحلفائها، نابعة من ضغوط متوقعة على بلدنا كى يقبل بخيارين كلاهما مر، الأول هو تواجد قوات أجنبية، أمريكية خاصة، على حدود سيناء مع غزة، والثانى قيام مصر بدور الشرطى لحماية أمن إسرائيل، بعد أخذ تعهدات عليها بأن تكون مسؤولة عن أى قطعة سلاح تدخل إلى غزة. هذا الابتزاز الإسرائيلى ما كان له أن يكون لو أحسنت مصر الرسمية اتخاذ الموقف المناسب منذ اللحظة الأولى للحرب. لكن الفرصة لا تزال قائمة فى معاقبة إسرائيل على تعنتها أمام الدبلوماسية المصرية وخداعها لها، وأمامنا خيارات فسيحة سترد لها الصاع صاعين، مثل تنفيذ الحكم القضائى بوقف تصدير الغاز، وطلب تعديل «اتفاقية السلام»، وسحب ما تسمى «مبادرة السلام العربية»، وتحقيق المصالحة الفلسطينية بأى طريقة وفى أقرب فرصة، ثم الانحياز الكامل لخيار المقاومة بشقيها المدنى والمسلح، واستغلال جرائم الحرب فى غزة وفتح جريمة القتل الجماعى للأسرى المصريين فى حروبنا ضد الكيان الصهيونى، وبدء حوار بناء حول تفعيل معاهدة الدفاع العربى المشترك.. فهل لنا أن نفعل أى شىء من هذا قبل فوات الأوان؟