لم أفاجأ بالحكم التاريخى الذى أصدرته محكمة القضاء الإدارى أمس، بإلغاء قرار الجهاز المركزى للمحاسبات بالرقابة على الصحف المستقلة، ولكن ملأنى إحساس داخلى ورغبة جامحة فى الانحناء احتراماً وإجلالاً للقضاء المصرى النزيه.. والسبب أن حيثيات الحكم لم تكتف بوقف القرار وإحالة المادة 33 من قانون تنظيم الصحافة إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى دستوريتها، وإنما سجلت انتصاراً حضارياً لحرية الصحافة. قالت المحكمة فى أسباب الحكم «إن حرية التعبير التى كفلها الدستور، وما يتولد عنها من حرية الصحافة، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق من ممارستها، سواء بفرض قيود مسبقة أو بعقوبات لاحقة، فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، وعلى ذلك فإن حرية التعبير هى القاعدة فى كل تنظيم ديمقراطى لا يقوم إلا بها ولا يعدو الإخلال بها أن يكون إنكاراً لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد بقانون أو قرار، ولما كانت حرية الصحافة من أهم مظاهر حرية التعبير عن الرأى، فإن أكثر ما يهددها هو أن يكون الإيمان بها شكلياً، بل يتعين أن يكون الإصرار عليها مقبولاً بتبعاتها». كلمات لا تدانيها كلمات.. وعبارات تصلح منهجاً عصرياً لتعامل السلطة مع الإعلام.. ودرس بليغ لمن يظن أن الصحافة الحرة تقبل أن يساومها أحد على ولائها للقارئ، أو أن «تلوى» الحكومة عنقها تهديداً ووعيداً.. قالها القضاء بلا مواربة أو مهادنة: «لا يجوز تقييد حرية التعبير والصحافة بالأغلال» و«حرية التعبير هى القاعدة فى كل تنظيم ديمقراطى.. ولا يعطل مضمونها أحد بقانون أو قرار».. من يفهم هذا الدرس؟! وإلى متى ستظل الحكومة تنظر للصحافة المحترمة باعتبارها عدواً للوطن، وخصماً لدوداً، وعميلاً لكل القوى الشريرة فى الكون؟! ومتى يدرك أصحاب السلطة والنفوذ أن حرية الصحافة هى الدرع الحقيقية فى مواجهة أى أخطار، والسيف الذى يخترق الأزمات والصعوبات، والضمانة الوحيدة للإصلاح والتنمية؟! أعرف أن هذه الأسئلة لن تجد من يحاول الإجابة عليها فى السلطة.. تماماً مثلما أعرف أن كلمات محكمة القضاء الإدارى تمثل طعنات غائرة فى قلوب مريضة تتربص بالصحافة المستقلة فى مصر، وتحرض ضدها كل صباح، وتحفر لها «حفرة» جديدة كل مساء.. أغلقوا الصحف التى تجسد معاناة المواطن.. اقصفوا الأقلام العميلة والخائنة.. كمموا الأفواه الدنيئة.. اقطعوا الألسنة الطويلة.. الصحيفة التى ليست معنا ليست منا.. والصحفى الذى لا يسبح بحمد النظام كل دقيقة ليس مصرياً.. إنه عميل.. اشنقوه أو احبسوه أو قطعوا أوصاله من خلاف!! لم تكن طعنات عنيفة فحسب.. وإنما لطمة لمن توهم أن بمقدوره خنق حرية الصحافة.. غير أن هذا الحكم يفتح ملفاً لا تزال الحكومة تصر على «إغلاقه» تستراً.. فالجهاز المركزى للمحاسبات، الذى أراد فرض الرقابة على الصحف المستقلة، هو نفسه الجهاز الذى يمتلك ملفات التجاوزات فى الصحف القومية.. والأقلام التى تحرض ضد الصحف المستقلة هى نفسها التى تسببت فى إهدار أموال الشعب.. التقارير تصدر لتوضع فى الأدراج.. والإهدار مستمر.. والتحريض ضد الصحافة الحرة يتواصل.. ولا أحد يحاسب.. ولا أحد يسد «أخرام» المال العام. تحية واجبة للقضاء النزيه.. ونداء أخير للحكومة: حاسبوا الجميع، وأعلنوا خسائر وتجاوزات الصحف القومية.. وإذا برأها القضاء.. أغلقوا الصحف المستقلة، واحبسونا كلنا فداءً لصحف لا توزع نسخاً أكثر من عدد محرريها.. ومع «فشلها» يصرف الفقراء والمعدمون على «كروش» رؤسائها! [email protected]