خلال السنوات الأربع الأخيرة، شهد الاقتصاد المصرى – قبل أن تصيبه تداعيات الأزمة المالية العالمية – نموا اقتصاديا وانتعاشا، ظهرا فى ارتفاع معدلات النمو، والإنتاج، والإنفاق، والتصدير، والاستثمار الأجنبي، وغير ذلك من مظاهر زيادة النشاط الاقتصادي. ومع ذلك، فإن ثمار هذا النمو لم تصل إلى جميع فئات المجتمع، وبالتالى ظلت طبقات واسعة من الناس تشعر بأنها لم تستفد من الانتعاش الذى تمتع به آخرون. أما أسباب ذلك فقد كانت ترجع إلى عوامل عديدة، أهمها انخفاض مستويات التعليم والتدريب، وغياب السياسات الاجتماعية الكفيلة بمساندة الأكثر فقرا وتأهيلهم للاستفادة من الانتعاش الاقتصادي، وضعف آليات التنافس فى الأسواق. هذا كله ليس جديدا، وقد أدى إلى التفاوت الكبير بين ما تحقق للطبقات العليا والمتوسطة من زيادة فى الدخول والإنفاق، وبين استمرار معدلات مرتفعة للفقر. ولكن القضية الآن مختلفة. فالعالم يتجه نحو انكماش اقتصادي، سوف تصيب أعراضه مصر كما أصابت كل بلدان العالم، وقد بدأت بوادره بالفعل تظهر فى انخفاض المبيعات، والقلق من المستقبل، ووقف التوسع فى الأنشطة الجديدة، وغير ذلك من مظاهر الأزمة فى الاقتصاد الحقيقي. إزاء ذلك فقد قامت حكومات العالم بالإعلان عن برامج وسياسات عاجلة لتنشيط الطلب المحلى لديها، ودعم الصناعات الوطنية، والحد من الآثار السلبية للانكماش. وقد سلكت الحكومة المصرية النهج ذاته، إذ أعلنت عن حزمة من الإجراءات التى تتضمن زيادة الإنفاق العام على البنية الأساسية، وزيادة دعم الصادرات، ومساندة الصناعات المحلية. ولكن إن كان وضع برنامج أو حزمة من الإجراءات الرامية إلى تشجيع النشاط الاقتصادى وزيادة الطلب المحلى هو من حيث المبدأ التصرف الاقتصادى السليم والضرورى فى هذه الظروف، فإنه يلزم التنبه إلى أن اختيار مفردات هذه الحزمة ليس عملا فنيا محضا، وإنما يعبر عن أولويات اجتماعية ذات آثار مختلفة. فكل جنيه تنفقه الحكومة لتنشيط الاقتصاد يعبر بالضرورة عن اختيار اجتماعى وعن تقديم لمصالح فئات على أخرى، وكلها مصالح مشروعة. فالإنفاق على البنية التحتية، كالطرق، والكباري، والمستشفيات، والمدارس، وغيرها، بالضرورة يعبر عن اختيار اجتماعى لمصلحة الفئات المتوسطة ومحدودة الدخل، بينما منح المزايا المالية للمشروعات الاستثمارية مثلا يعبر عن مصلحة مختلفة لعدد أقل من الناس ولمستوى دخول أعلى. كلا الإجراءين قد يكون مفيدا من الناحية الاقتصادية، ولكن لكل منهما أثرًا اجتماعيًا مختلفًا من حيث تأثيره على فئات مختلفة فى المجتمع. لذلك فلا يكفى القول إن حزمة إجراءات تساوى عدة مليارات سوف يتم تطبيقها، وإنما ينبغى تحديد أى فئات من المجتمع سوف تكون الأكثر تأثرا بكل جانب من جوانب هذه الحزمة، كما ينبغى ألا يقتصر الحوار الوطنى الدائر الآن على المبالغ التى سوف تخصصها الدولة لدفع عجلة النشاط الاقتصادى، وإنما أن يتجاوز ذلك إلى توافق فى المجتمع على أولويات استخدام هذه الموارد. وفى تقديرى أنه من الضرورى فى الظروف الراهنة أن تكون حزمة السياسات الاقتصادية، التى تستهدف بها الحكومة تنشيط الاقتصاد، معبرة عن اختيار اجتماعى متوازن، وعن انحياز لما يحقق مصالح الأعداد الأكبر والفئات الأكثر احتياجا، بقدر ما تكون محققة لفوائد اقتصادية. لا شك أن مساندة قطاع الأعمال والمستثمرين ضرورية، لأن هذا هو ما يعطى أملا فى استمرار عجلة الإنتاج فى الدوران، والمصانع فى العمل، والتصدير، والتشغيل، والاقتصاد فى النمو. ولذلك فإن دعم الصادرات، وجذب الاستثمار الأجنبي، والوقوف بجانب الصناعات الكبيرة واجب قومي. ولكن من جهة أخرى فإن زيادة الإنفاق العام على الخدمات التى تستفيد بها الجماهير، وعلى التدريب والتأهيل المهني، وتشجيع الاستثمار فى المحافظات، وتيسير التمويل على الصناعات الصغيرة، وتوجيه الإنفاق العام نحو البنية التحتية، بجانب ما يساهم فيه أيضا من تنشيط فى الاقتصاد، تحقق أيضا قدرا من الضمان الاجتماعى فى ظروف صعبة. لقد فات قطار التنمية والانتعاش الاقتصادى الكثيرين ممن لم يحالفهم الحظ أو تساعدهم ظروفهم على اللحاق به، أو التمتع بثماره فى السنوات الماضية، وعلينا أن نحرص على ألا يكونوا هم أيضا من يدفعون ثمن الانكماش الاقتصادى قبل غيرهم، فيكونوا قد خسروا فى الحالتين.