العلاقات بين الدول لا تحددها المعاهدات، ولا التبادل الاقتصادى، ولا حتى الأوامر التاريخية، وفى مصر أكثر من مائتى سفارة وقنصلية، ونحن الكتاب نشاهد السفراء يقدمون أوراق اعتمادهم فى صور مع رئيس الجمهورية، بحضور الدكتور زكريا عزمى، رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، ثم أمين عام الرئاسة، ثم وزير الخارجية، وننسى حتى أسماء السفراء، ثم تطفو على السطح، حينما نسافر فى رحلة عمل، فنضطر لمقابلة السفراء فى حفلات عشاء قبل السفر، من باب تعميق معرفة البلد، وتذوب الليلة فى الابتسامات الدبلوماسية. ولكن هناك سفيراً يغادرنا هذه الأيام إلى بلد آخر يمثل بلاده فيه، هذا السفير هو السيد برند إربل سفير ألمانيابالقاهرة لعدة أعوام، هذا السفير هو حالة خاصة ولا أدرى هل دراسته للقانون فى جامعة ميونخ، ثم تعميق واتساع أفقه بعمل دراسات موازية للدراسات الشرقية والإسلامية، ثم دراسته للغات الشرقية، مثل العربية والفارسية والتركية، وهل زواجه من الأديبة مى إربل اللبنانية التى درست الأدب العربى، ثم عمقت دراستها برسالة ماجستير فى الفكر العربى، واختيارها لعصر النهضة.. أى شىء من كل ذلك جعله يعيشنا ليس دبلوماسياً ولكن مثقفاً حتى جعل من الثقافة هى السفير بدلاً عنه؟ الثقافة أصبحت شريانه للامتزاج بناس مصر. لقد استطاعت زوجته السيدة مى أن تنجح فى فتح صالونها للنخبة المثقفة كل شهر مع اختيار موضوع اللقاء، كما كانت هى وزوجها يحرصان على أن يكون للعلاقات الثقافية بين البلدين أساس فى معظم الصالونات، مثل الآثار المصرية فى متحف برلين وعلى هامش الندوة ترصع خارج الصالون لوحات لأحد فنانينا المتميزين عن الفن المصرى القديم هو الفنان فريد فاضل. ويختار هو أحد أعماله فى عمق مصر، وهو عالم نجيب محفوظ، الذى اختار بحنكة متمكن من القاهرة الفاطمية والمملوكية والعثمانية أماكن عششت فيها دراما نجيب محفوظ وصورها أفلاماً بنفسه، وبعربيته المنطلقة دون أى دمغ لأى حرف يشرح عالم نجيب محفوظ الذى عشقه وسجله حارة حارة وعطفة عطفة، واختارت السيدة مى ضالتها المنشودة فى الكاتب الكبير جمال الغيطانى ليعايشنا معه بدراسة شديدة الواقعية بعاطفة وطنية خالصة لتتآخى مع دراسة السيد إربل لعالم نجيب محفوظ. استطاع السيد إربل وحرمه أن يجعلا من الثقافة سفارة كاملة وعلاقات معشقة بين الدبلوماسية والثقافة، باحترام للبلد الذى مثل بلده فيه لدرجة أنه ذاب فى موقعه. ولأن الثقافة تجعل من حامليها شديدى الحساسية وشديدى المقدرة على سبر غور المجتمع، فقد استطاع بارتباطه العاطفى وفهمه العميق لإحساس المصريين باستشهاد المصرية مروة الشربينى، أن يجد فى نفسه الشجاعة والإحساس للذهاب لتقديم العزاء لأسرتها، رغم الاحتقان الجارف بيننا وبين الألمان فى ذلك الحادث المأساوى. ونحن شعب لدينا من الأمثال العامية ما يفتت الصخر، ويجعل الحب يتدفق من العبارات (جحر ديب يساع ميت حبيب) و(لاقينى ولا تغدينى) و(بصلة المحب خروف)، وكلها ثقافات تراثية ليست مصادفة، ولكنها نابعة من قلوب وعقول المصريين. لهذا استطاع السفير إربل أن يدخل قلوب النخبة المثقفة المصرية عن طريق بوابة ملكية لها روح اللبنانيين فى حب الحياة، والقدرة على لم الشمل على مائدة لا يهم فيها الطعام -رغم وجوده- ولكن الثقافة وزاد العقل هما طريقها، حتى أننى تأكدت أن طريق اللبنانية إلى قلب الألمانى لم يكن معدته، ولكن كان عقله ووجدانه، تلك هى زوجته التى نظمت صالونها بحيث يصبح جزءاً من عمله. لعل تجربة السيد برند إربل فى القاهرة، ومن قبلها كما تقول مى فى الرياض رغم اختلاف المجتمعين، حينما كان نائباً للسفير هناك، تغرى سفراءنا العظام بفتح البيوت المصرية والبحت عن مصر وعلاقاتها الإنسانية بأى من بلاد العالم، وتصبح الثقافة هى المركب الذى يسبح بالسفير فى عالم جديد يمثل بلاده فيه. عن نفسى أحسست برغبة فى الاقتراب من الشعب الألمانى الذى اعترف بأننى كنت أنكمش بعداً عنه، أحسست أن هذا الرجل لا يمثل الذكاء والثقافة فقط، ولكنه حول الدبلوماسية إلى سبر غور الإنسان. السيد إربل يرحل من مصر بعد أن قلد عظيم كتابنا زميل العمر العزيز سلامة أحمد سلامة وساماً ألمانياً رفيعاً يليق به فى حفل كنا فيه كمن يتقلد الوسام شخصياً، لأن العزيز سلامة كاتب صحفى لا نقرأه ولكن يعيش فينا، ويقرب لنا البعيد، وينوب عنا فى طرح القضايا بشكل عقلانى لا يترك للعاطفة أن تطيح به بعيداً، وروح وطنية تضرب بالقلم فى أسلوب إصلاحى قوى، كان اختيار تكريم عظيم كتابنا تكريماً ذكياً وكأنه يعلم أنه يكرمنا جميعاً فى سلامة أحمد سلامة. هذا النموذج من السفراء مع زوجته، نموذج يجب أن يدرّس للسفراء حول العالم، حتى لا تنتهى مهمة السفير عند صورة تقديم أوراق الاعتماد والجلوس فى مكتب فخيم يوقّع على بعض الأوراق ويرافق رئيس بلاده عند زيارته وينتظره فى المطار ويودعه. كلمة أخيرة أهمس بها إلى السيدة مى إربل حرمه: ماذا سوف تفعلين فى إيران؟ رغم أن زوجك يعرف الفارسية.. هل تفتحين صالونك كما فعلت فى مصر؟ المحاولة مهمة جداً، وإيران بلد يغلى بالثقافات، وحضارة ساخنة تستحق المغامرة.. أليست تجربة هذا السفير تستحق الدراسة؟