مشكلتنا أننا عندما نصعد إلى القمة نأخذ السلم الذى صعدنا عليه معنا، وإذا ما أراد غيرنا الصعود أيضاً فليأت بسلم خاص به. كما أن رؤيتنا للقمة هى مكان يتسع لفرد واحد، كما قمة الهرم، أما فى الغرب فتكون قمة الجبل متسعة للمئات ممن يصلون إليها ولا يزاحمون بعضهم البعض، وليس هناك من تكون وظيفته الأساسية هى وضع العراقيل أمام الآخرين، مثل تكسير سلم الصعود. أقول هذا بمناسبة مشاهدتى لبرنامج يعرض هذه الأيام فى بريطانيا يسمى Britains got talent (بريطانيا فيها مواهب). فكرة البرنامج تقوم على اكتشاف المواهب فى المجالات الفنية والترفيهية المتنوعة، لذا يسافر فريق البرنامج إلى كل مدن المملكة المتحدة، ويتقدم كل من يجد أو تجد فى نفسها الموهبة أمام هذه اللجنة وأمام جمهور كبير من المتفرجين. الملفت للانتباه فى هذا البرنامج هو كيف يحتفى الجمهور البريطانى بالموهبة الحقيقية، خصوصا إذا كان صاحب أو صاحبة هذه الموهبة من عامة الناس الذين لم يولدوا وفى فمهم ملعقة من ذهب، بل يكدّون ليل نهار لأجل عيش كريم. فقد فازت مثلا امرأة تدعى سوزان بويل، وهى امرأة من الريف البريطانى فى السابعة والأربعين من عمرها، بسيطة فى منظرها وملبسها، ولكن ما إن بدأت فى الغناء حتى حبست الصالة أنفاسها لحلاوة الصوت وعذوبته، صفق لها الجمهور طويلا ووقف أعضاء اللجنة تكريما لها.. الكل كان فرحا لأن امرأة ريفية عاشت طيلة حياتها مغمورة لم يسمع بها أحد، قد نجحت فى أن تحقق حلمها فى الغناء، حلم تستحقه بجدارة لأنها تملك الموهبة الحقيقية. رجل آخر نجح فى البرنامج وهو فى السابعة والثلاثين يدعى جيمى بوه، يعمل سائق شاحنة فى النهار وموصل خدمات بيتزا فى الليل، وقف أمام الجمهور خائفا مرتبكا، وما إن غنى حتى صفق له الجمهور طويلا تحية لموهبته التى لا يمكن أن تخطئها الآذان.. هذان النموذجان، سوزان وجيمى، هما من عامة الشعب البريطانى البسيط الذى يعمل بجد ونزاهة، ليسا مدعومين من أى أحد سوى من موهبتيهما الحقيقيتين. هاتان الموهبتان اللتان دفعتا الجمهور إلى التصفيق لهما وأصبحا نجمين على ال«يوتيوب» يستمع إليهما عشرات الآلاف. فى عالمنا العربى، ظهر أكثر من برنامج لاكتشاف المواهب الغنائية تحديدا دون المواهب الأخرى، ولكن أيا منها لم يقدم لنا موهبة لامرأة فى الأربعينيات من عمرها أو لرجل فى نهاية الثلاثينيات ويعمل سائق شاحنة أو فراشاً أو بواباً.. الفائز أو الفائزة فى برامج المواهب العربية دائما فى العشرينيات من العمر ويتمتع بشكل جميل أو قابل للتجميل لاحقا. لم تكتشف برامج المواهب العربية، على اختلافها وتنوعها، امرأة مثل سوزان بويل بشعرها غير المصبوغ وتجاعيد وجهها وفستانها البسيط وتتمتع بموهبة حقيقية، ولم تقدم لنا هذه البرامج أيضا نموذج الرجل العادى جيمى بوه، الذى ليست له عضلات مفتولة ولا شعره «مسبسب»، ولكن صوته الجميل الذى مرنه لوحده كما ذكر أسر قلوب الجميع. هذه البرامج العربية أخذت فكرتها بالطبع من برامج قدمت فى الغرب ونجحت مثل برنامج Britains got talent. ولكنهم (جماعتنا) أخذوا شكل البرامج فقط، بينما قدموا المضمون وفق ما يرونه ملائما للذائقة العربية الحالية. فهل الذائقة العربية لا تقبل بأقل من الكمال، الكمال فى الصوت والشكل والعمر؟ من يرى احتفاء الجمهور البريطانى بهذه المواهب الحقيقية لبشر ينتمون إلى فئات عمرية وشكلية واجتماعية وفكرية مختلفة، يدرك أن العالم مازال بخير، وأن الناس فى الغرب الذى يبغضه الكثيرون أكثر تسامحا مع الشكل والسن وأكثر تذوقا لما هو موهبة. أما عندنا فموهبتك الواسطة، أبوك وأمك وأخوك، أو شكلك أو عمرك.. إلخ. الموهبة عندنا لا تمنحها الطبيعة وإنما تفرض بالدراع. بكل تأكيد لدينا مواهب ولدينا أصوات عذبة ولدينا آذان موسيقية، ولكن ليس لدينا الطريق السالك البسيط المفتوح أمام الجميع. سألنى أحد الأصدقاء لماذا لا نرى سلسلة من الناجحين فى بلاد العرب كما نراهم فى الغرب، فكان ردى أن من يصعد إلى القمة من جماعتنا لا يترك السلم فى مكانه كى يصعد عليه غيره، وإنما يأخذ معه السلم «وكل واحد عاوز يصعد يجيب سلمه معاه». النقطة الثانية هى أننا نرى القمة وكأنها قمة الهرم، مكان ضيق ومدبب لا يسمح بالوقوف لواحد أو اثنين. أما فى الغرب فحيث الجبال الشاهقة، تسمح القمة بأن يقف عليها مئات أو آلاف. إنها الجغرافيا والأشكال الطبيعية التى تفرض علينا. تخيل شكل القمة إذا كانت مكانا فيه متسع للجميع أو يضيق ليكون فيه فرد واحد فقط. الهرم والجبل والسلم تلك هى معوقات خيالنا لمعنى القمة ومعنى النجاح، ومع ذلك أمامنا فرصة للتعلم من الآخرين فى الاحتفاء بالموهبة أيا كان مصدرها أو مكان ميلادها أو شكلها. أتمنى أن نبدأ فكرة الاحتفاء بالمواهب، بدلا من تسابقنا حول إزاحة السلم عمن يريدون الصعود.