كما كتبت سابقاً وكتب الكثيرون غيرى، فقد تحول شهر رمضان الكريم إلى مولد لا يعرف أحد له صاحباً، ولكن بالتأكيد فإننا كلنا نعرف أن هناك آلاف المستفيدين منه، مثل أصحاب المطاعم ومحال مأكولات بعينها والكافتيريات ورجال الأعمال المعلنين عن بضاعتهم.. ولكن يأتى على رأس المستفيدين من هذا المولد الرمضانى، هؤلاء المشاركون فى السيرك الذى نصبه التليفزيون المصرى وسط هذا المولد، يستفيد منه الآلاف من العاملين فى حقل الإعلام والفن، بما يحقق لهم سيولة مالية تكفيهم بقية العام.. ولا يهمهم بالطبع مستوى أو محتوى ما يقدمونه على مدار أربع وعشرين ساعة وطوال شهر بكامله من منتجات تليفزيونية غاية فى السذاجة والسطحية والتفاهة والاستخفاف بعقول المصريين، بل تعمد تغييب وعيهم وإلهاءهم عما يدور حولهم والتفنن فى إضاعة أوقاتهم، لم أحاول مطلقاً متابعة أى من تلك المسلسلات الخاوية والمستفزة فى كثير منها، ولا تلك البرامج التافهة ثقيلة الظل التى تعرض مسابقات وأسئلة عبيطة، ولكن لظروف اضطرارية ناتجة عن العادة السيئة المصرية بفتح التليفزيون طوال اليوم، سواء كان يشاهده أحد أم لا، تابعت عدداً مما يسمونه «برامج حوارية» تجرى مع بعض المشاهير يتكرر معظمهم كل عام، يقولون نفس الكلام وربما يضيفون بعض الحكاوى والأكاذيب التى تلمع صورتهم، وهؤلاء المشاهير محصورون فى وزراء بعينهم فى الحكومة وأعضاء قياديين فى الحزب الحاكم، والفنانين وأشباههم ممن يعملون فى مجال التمثيل والرقص والغناء، والعاملين فى مجال كرة القدم، وبعض من دعاة الفضائيات المحدثين الذين استهوتهم النجومية والشهرة، من ضمن الفصيل الأخير رأيت على أكثر من قناة وفى أكثر من برنامج الأستاذ خالد الجندى، الذى يوصف مرة ب«الشيخ» ومرة أخرى ب«الداعية»، كل يسميه على هواه طالما أنه ليس لدينا تعريف محدد لمن هو الشيخ ومن هو الداعية، خاصة فى حالة فوضى الألقاب التى أصبحت من سمات حياة المصريين فى هذا الزمان.. فعمر الرجل وما ينطق به وما يظهر من تصرفاته لا يمنحه فى رأيى أياً من اللقبين، لذلك آثرت أن أسميه الأستاذ حيث إنه كخريج أزهرى كان يمكن أن يكون مدرساً جيداً للغة العربية والدين.. المهم أننى رأيته يصرح للمذيعة التى كانت تحاوره بأنه يؤكد لها أن «الأزهر» هو الذى سيقود مصر فى المرحلة المقبلة!! ربما كان وراء غرور الرجل أنه أصبحت لديه أداة إعلامية يتولى الإشراف عليها هى قناة «أزهرى»، التى لا يعرف أحد حتى الآن هل هذه القناة الفضائية هى قناة أطلقتها جامعة الأزهر، تتحمل تكاليفها المالية، وتتحمل كذلك مسؤولية كل ما يقدم فيها.. أم هى قناة خاصة، وفى هذه الحالة من يملكها؟ فإذا كان الأزهر هو مالك هذه القناة، فهل يرى ذلك الكيان العريق، والذى خرج من بين جنباته على مدار أكثر من ألف عام، علماء دين عظماء، وأهل فكر ورأى وعطاء، خاصة قبل انتشار التعليم المدنى.. هل ترى هذه الجامعة باسمها الكبير أن الأستاذ خالد الجندى هو خير من يمثلها بإدارته وتوجيهه لهذه القناة ووضع صورته عليها فى إعلانات كبيرة تكلفت الملايين، لمجرد أنه يحمل شهادة أزهرية؟ لقد شاهدت الأستاذ خالد الجندى فى حوارات مختلفة له يتحدث عن الشيخ الجليل جمال البنا، المفكر الإسلامى المجدد العظيم، يقول عنه إنه لو كان خريجاً من الأزهر لذبحه، وأشار بيده على رقبته!! وفى موضع آخر وصف اجتهادات المفكر الإسلامى الكبير بأن ما يقوله ليس فكراً إسلامياً، ولكن «فكر مراحيض»!! والأستاذ خالد يسفه أى رأى يصدر عن إنسان اتبع الأمر القرآنى بالتفكر والتدبر فى آياته، طالما أنه ليس ممن دفعتهم ظروفهم الاجتماعية وقدراتهم العقلية للالتحاق بالأزهر وارتداء لباسه التقليدى، خاصة لو كان ينافسه إعلامياً فى مجال التربح من الدين مثل الأستاذ عمرو خالد الذى يقاطعه، وقال عنه إنه لا يرد على مكالماته!! هل مثل هذا الرجل الذى يحض على ذبح من يخالفونه فى الرأى والمجددين، ويسىء الأدب فى الحديث مع من يكبرونه سناً ويفوقونه علماً وعقلاً والتزاماً، يصلح لأن يكون واجهة للأزهر الشريف؟! إنه سؤال أوجهه للعالم الفاضل والرجل المحترم الدكتور حمدى زقزوق، وزير الأوقاف، الذى لا يكل ولا يمل من تكرار الدعوة إلى تجديد الخطاب الإسلامى وتحديثه وتنقيته من الأصولية الغوغائية وأصحاب الأفكار الرجعية، واحسرتاه عليك يا مصر.. هل أمثال ذلك الرجل من خريجى الأزهر هم الذين سيقودونها فى المرحلة المقبلة كما قال؟! وإلى أين يا ترى سوف يقودونها؟! إننى أرى أن إحدى الدعائم الأساسية لمشروع نهضة مصر الذى نحلم به جميعاً، هى إعادة النظر فى مشروع تطوير الأزهر الذى مضى عليه الآن قرابة نصف قرن، الذى كانت وراءه نوايا حسنة فى وقتها، ولكن مرت عقود تغيرت فيها الأوضاع والأحوال داخلياً وخارجياً، وأصبح التمسك بإضافة كليات مدنية وعلمية إلى الكليات الأساسية الثلاث للتعليم الأزهرى وهى الشريعة وأصول الدين واللغة العربية هو جريمة فى حق الأزهر ذاته.. كما أنها جريمة فى حق الوطن يشارك فيها كل من يؤثر الصمت ويشعر بالخوف من علو أصوات الجهلاء والمستفيدين من هذا الوضع الشاذ. إننى أحلم بعودة الأزهر الشريف إلى ما كان عليه طوال تاريخه الطويل إلا بضعة عقود.. عودته إلى وقت أن كان يتفرغ فيه أبناء نابهون من مسلمى هذا الوطن، ينذرهم آباؤهم لدراسة علوم الدين، فيلحقونهم للدراسة بالأزهر فى ظل مناخ منفتح، يشجع الاجتهاد والتجديد وإعمال العقل، بعيداً عن الغلو والتعصب والجمود.. إن أبناء مثل هذا الأزهر هم فقط الذين يمكن أن يكون لهم دور فى قيادة المجتمع المصرى على طريق التقدم والنماء.. وليس أبداً أبنائه السبّابون والشتّامون والمرتزقون بالدين.