للسفر سبع فوائد، لكنه أيضا قطعة من العذاب.. وبين القطعة المفردة والفوائد السبع قصص يحكيها مرفق السكة الحديد المصرى، وفى هذه الحالة فالعذاب هو الحاكم فى مقابل تدنى منزلة الفوائد، وإذا كنت من «أحباب الله»، الاسم الحركى لساكنى الجنوب المعروفين فى بر مصر ب«الصعايدة»، ستتضاعف القطعة وتصبح قطعاً مثل قطع الكذب اليومى التى نراها على الفضائيات ممهورة بتوقيع وزارة النقل، وتحمل دعوة «قول للغلط لأ». فمثلى مثل كثيرين يحنّون لجذورهم دوماً ولا ينسون امتدادهم الإنسانى فى الجنوب، فيسافرون لقضاء أعيادهم فى بلداتهم استجابة لنداهة لا يعلمها سوى مَنْ جاء من هذه البقعة الجغرافية.. ووسط هذا الشغف اللامحدود لتحقيق هذه الرغبة، تجتاحنا مشاعر القلق السنوية بسبب عناء الحصول على تذكرة قبل نهاية شهر رمضان، ولكنها خفّت قليلاً عندما شاهدنا الفتح الإعلامى لوزير النقل، الذى دغدغ مشاعرنا ودفعنى للتفكير ملياً لأكون أحد هؤلاء الذين يقولون للغلط «لأ».. وفى ظل هذه المشاعر الوطنية التى ذكَّرتنى بروائع صالح مرسى عن ملاحم المخابرات المصرية، ذهبت لأبحث عن تذكرة، فكانت الخيبة من نصيبى. تجاوزت المسألة وذهبت لأحد الأصدقاء العارفين بشؤون السكة الحديد، والمخترق لقلعتها الشهيرة فى رمسيس، لأحصل على تذكرة فى قطار يقلنى إلى محافظتى أسيوط، وقد كان، وتحولت إلى محطة سكك حديد الجيزة، وتدثرت بأحاسيس التفاؤل، فدخلت من باب المحطة فلم أجد شيئاً مختلفاً عما عَهِدته من قبل، فتجاهلت إحباطى وأغرقت نفسى مرة أخرى فى دوامة الإيجابية، علّنى أجد شيئاً مفرحاً ينفض عن نفسى ركام سنوات الإحباط من كل شىء فى مصر، فتوجهت إلى استراحة الدرجة الأولى فى المحطة، فوجدت شخصاً فى الأربعينيات من عمره يجلس مع ابنه ينتظران نفس قطارى، فتجاوزتهما عيناى إلى أركان الغرفة التى تلفها رائحة نتنة يميزها المترددون على محطات السكك الحديدية، مع 17 مقعدا ممزقة تناثرت فى المساحة التى لا تتجاوز 20 مترا، بجانب صرصار يتجول فى أحد جوانبها. الصورة الوردية اهتزت، فقررت النوم لأغالب إحباطى، لكن الرائحة الكريهة منعتنى، فخرجت حتى يأتى قطارى، ومر أمامى قطاران من قطارات الدرجة الثانية، فوجدتنى تلقائياً أتذكر صورة أحدها الذى يظهر فى الإعلان كأحد قطارات أعرق المدن الأوروبية، ولكن الواقع مرير، مرارة الحياة فى مصر، القطاران بلا نوافذ وأبوابهما تفتقد كل معايير الأمان مع جرار قديم متهالك يصلح لجر إحدى ألعاب ملاهى الموالد التقليدية. وصل قطارى، ودخلت مثل غيرى وقررت عدم استخدام دورات مياهه حتى لا أجد ما يسرنى لكن غلبنى نداء الطبيعة، وذهبت لأجد فى انتظارى صرصاراً يرتع فى المكان، أبى ألا يتركنى ليؤانسنى وكأن لسان حاله مؤانستى فى رحلتى. شعرت بمهانة من مشاهداتى تلك، لأن وزارة النقل خدعتنى مثل ملايين المصريين برسالة ذكرتنى بدعايات «جوبلز»، فالوهم الذى تبثه وزارة النقل ليس إلا جريمة أخرى لحكومة نظيف التى تتخذ من الكذب منهجاً، لكن الجريمة هنا مضاعفة، فالخداع على حسابنا، حساب دافع الضرائب المصرى أى أنت وأنا، هيئة السكك الحديدية ارتدت ثوب دكتور جيكل ومستر هايد، فظهرت فى المساء على الفضائيات أنيقة خيّرة، وفى الصباح على أرض الواقع سيئة شريرة، وبين الصورتين مواطن مغلوب على أمره يتحسس قفاه وأيضا جيبه. [email protected]