والتضارب فى كتب المؤرخين فى موقف المصريين من الروم لا غرابة فيه ولا مفر منه. فكراهة القبط للروم ثابتة لا جدال فيها ولا يتطرق إليها الشك فإذا جاء فى بعض التواريخ أنهم أظهروا المودة للعرب وجاء فى تواريخ أخرى أنهم لبثوا على موالاة الروم إلى ما بعد الهزيمة الحاسمة فليس سبب ذلك أنهم أحبوا أولئك وكرهوا هؤلاء ولكن السبب أنهم ترقبوا جلاء الموقف بين الجيشين المقاتلين، وأنهم كانوا يعملون متفرقين لامتلاء البلاد بالمعسكرات التى تقطع الصلة بين أجزائها فيكون قوم منهم على مقربة من جند الروم تارة ومن جند الغرب تارة أخرى، ويكون الأقوام المتفرقون على نية متشابهة وأعمال متخالفة على حسب الأحوال. ولولا ثقة العرب فى عداء المصريين للروم لما استطاع عمرو بن العاص أن يترك حصن بابليون ويوغل فى الصعيد ومن ورائه جيش أعداء يقطع عليه الرجعة ويحصره حيث كان، فأربعة آلاف مقاتل يتفرقون من العريش إلى بابليون لا يفتحون قطراً يسكنه شعب كبير وتحميه دولة كبيرة فقطع الطريق عليهم أيسر الأمور لو كان الشعب المصرى على قلب واحد مع الروم. وأولى أن يقال إن جند الروم لا جند العرب هم الذين كانوا يحذرون من الإيغال فى جوف البلاد ومن إحداق الأعداء والرعية. فالتناقض فى هذه الأخبار هو طبيعة الموقف التى توجب الميل إلى قبولها لا الشك فيه لولا نيات بعض المؤرخين الغريبين الذين كتبوا عن تاريخ الرومان بمصر وكأنهم أناس من الرومان يذكرون مصاباً لحق بهم ويتلمسون العزاء عنه. إن التاريخ ينقض كل ما يقال عن التفرقة بين عناصر الوطنية المصرية فمن الحقائق الواضحة أن المسلمين والمسيحيين سواء فى تكوين السلالة المصرية ولا فرق بين هؤلاء وهؤلاء فى الأصالة والقدم، فإن كان بين المسلمين المصريين أناس وفدوا من بلاد العرب أو الترك فبين المسيحيين المصريين كذلك أناس وفدوا من سورية واليونان والحبشة ودانوا بمذهب الكنيسة المصرية ويبقى العديد الأعظم بعد ذلك سلالة مصرية عريقة ترجعه بآبائها وأجدادها إلى أقدم العهود قبل الميلاد المسيحى وقبل موسى عليه السلام. وحديث المظالم التى يلج المؤرخون المغرضون فى التنقيب فيها قد تثبت كل الثبوت أو ثبت المبالغة فيها لغرض من الأغراض ولكنها إذا رويت على حقيقتها التاريخية مجردة من الأهواء لم تنحصر فى مصر. فمن أجل هذه المظالم وأشباهها ثارت الأمم فى الشرق والغرب ومنها أمم مسيحية ثارت على حكام مسيحيين وأمم إسلامية تثور على حكام مسلمين وقد يكون الثائرون والطغاة من أبناء نحلة واحدة تنتمى إلى دين واحد. وعصمة القارئ والمؤرخ فى تمحيص الحقائق أن يلتمس «هوى الدولة الرومانية» فى كتابة تاريخ هذا البلد، فكل من كتب التاريخ كأنه يضع نفسه فى موضع تلك الدولة ويتحسر على زوالها وزوال سلطانها فهو «أجنبى الهوى» يشوه الماضى ويريد أن يتسلل منه إلى الحاضر كما يشتهيه غير مبال بحرمة التاريخ وحق الوطن.