دكتور محمد سليم العوَّابعد أن فتحت جيوش المسلمين، بقيادة عمرو بن العاص، مصر، وعسكرت فى الفسطاط، وسيطرت على ما والاها من البلاد، كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، يطلب منه الإذن له بالتوجه نحو الإسكندرية لفتحها بعد أن كان حصن بابليون قد سقط فى أيدى المسلمين. فكتب إليه عمر يأذن له بذلك. واستخلف عمرو بن العاص على ما فُتِحَ من أرض مصر خارجَةَ بن حُذافة السهمى، وسار بالمسلمين يريد الإسكندرية. وخرج معه جماعة من رؤساء القبط بعد أن كان المسلمون قد أصلحوا لهم الطرق وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وأصبح القبط أعوانا لهم على ما أرادوا من قتال الروم. وسمعت الروم بذلك فاستعدت، واستقدمت المدد من بلاد الروم بسفن عظيمة عبرت البحر المتوسط إلى الإسكندرية. وخرج عمرو من حصن بابليون متوجها إلى الإسكندرية فلم يلق من الروم أحدا حتى بلغ بلدة يقال لها (ترنوط) فلقى بها طائفة من الروم قاتلوه قتالا خفيفا، انتهى بهزيمتهم، فمضى عمرو بمن معه من المسلمين والقبط إلى بلدة يقال لها كوم شريك فلقى بها جمعا من الروم، فاقتتلوا ثلاثة أيام ثم فتح الله على المسلمين وولى الروم أكتافهم هربا. ثم تتالت المواقع بين الروم والمسلمين فاقتتلوا بسلطيس جنوبى دمنهور. وهزم المسلمون الروم واستولوا على حصن سلطيس. ثم التقوا فى كريون شمالى دمنهور وكان فيها آخر حصن من الحصون التى بين بابليون والإسكندرية، فتحصن الروم فيه، وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا دام بضعة عشر يوما انتهت بنصر المسلمين، وولَّى الرومُ الأدبارَ حتى وصلوا إلى الإسكندرية. وقد أصيب عبدالله بن عمرو بن العاص فى هذه المعركة بجراحات كثيرة فلما جاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه قال: أقول لها إذا جشأت وجاشت رويدك تحمدى أو تستريحى فلما بلغ ذلك عمرا قال هو ابنى حقا(!) وقد قطع عمرو والمسلمون معه ما بين بابليون حتى الإسكندرية فى نحو ستة أشهر، وأقاموا فى حصار الإسكندرية نحو ثلاثة أشهر. كانت الإسكندرية ثانية عواصم الإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكانت أول مدينة تجارية فى العالم. وكانت عاصمة لمصر، منذ أنشأها الإسكندر الأكبر ما بين سنتى 332 و331 قبل الميلاد. لذلك اعتنى بها الرومان عناية خاصة، فحصنوها ضد غارات المغيرين وهجمات الفاتحين. وكان المدد يتدفق عليها من إمبراطور الروم، وفيها حامية لا تقل عن خمسين ألف جندى مزودين بالمؤن الوفيرة. وكانت قوات عمرو بن العاص ضئيلة إذا قورنت بعدد الروم فى المدينة، ولذلك كان عمرو بن العاص يستخدم خبرته العسكرية ودهاءه الفطرى، فى مواجهة الروم. فيروى المؤرخون أن جماعة من قوات الروم خرجوا من حصن الإسكندرية وحملوا على المسلمين حملة شديدة، فقتلوا رجلا منهم واحتزوا رأسه، وعادوا بها إلى الحصن. فغضب قومه وكانوا من أهل اليمن غضبا شديدا، وأبوا أن يدفنوه إلا برأسه(!) فقال لهم عمرو: كأنهم يبالون بغضبكم (يعنى إن غضبهم لن يؤثر فى جيش الروم شيئا) فم عَلَّمهم كيف يحملون الروم على رد رأس صاحبهم فقال لهم: استدرجوا القوم ليخرجوا إليكم فإذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم واحتازوا (يعنى خذوا) رأسه، ثم ارموا بها إليهم يرمونكم برأس صاحبكم. وذلك ما كان، إذ خرج الروم فقتل المسلمون قائدا من قوادهم، فاحتزوا رأسه ورموا به إلى الروم فرمى إليهم هؤلاء رأس صاحبهم اليمنى(!) بديهة عمرو النادرة وقدرته على درء ما يشغل جنوده عن الجهاد وعلى تذليل العقبات هى التى نفعته فى هذا الموقف الذى لو تطاول به الوقت لفت فى عضد جنده ووَّهن عزيمتهم وشغلهم بالشأن الخاص، قليل الأهمية، عن الشأن العام العظيم الذى انتدبهم أمير المؤمنين له. وغدا نستكمل إن شاء الله.