عندما صدر حكم محكمة سفاجا الجزئية بالبراءة على ممدوح إسماعيل فى قضية العبارة، قامت الدنيا فى مصر ولم تقعد، ليس للإسراع بالاستئناف ولا للبحث عن أدلة جديدة، وليس غضبا من مناورات الدفاع وحيل المحامين التى أدت للبراءة، بل قامت لاتهام المحكمة ذاتها والقضاء المصرى كله بالظلم والتواطؤ لتبرئة المتهم بسبب نفوذه! صار القضاء نفسه متهما مع ممدوح إسماعيل فى ذات القفص وظهرت نظريات متنوعة للمؤامرة! أما أهالى الضحايا المدعون بالحق المدنى فقد بادروا فور النطق بالحكم بتحطيم المحكمة والاعتداء على من فيها دون أدنى اعتبار لهيبة المحكمة والقضاء، وبادرت بعض البرامج الفضائية بنقل هذا المشهد المؤسف فى صورة تستجلب العطف لدى المشاهد على من يحطمون المحكمة ويهاجمون من فيها، بل طالب البعض بإحالة الدعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية للنظر فيها وكأن القضاء المصرى ومحكمة الاستئناف قد فقدا مصداقيتهما مقدما حتى قبل استئناف الحكم، وصاح أحد نواب الشعب المعروفين فى الفضائيات والصحف طالبا بالاسم أوكامبو المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية ليتولى التحقيق. القرار الذى صدر بإحالة أوراق هشام طلعت مصطفى ومحسن السكرى لفضيلة المفتى فى قضية قتل المطربة سوزان تميم، يرد على كل هذه الألسنة فيسكتها، فماذا كانت سلطة ممدوح إسماعيل ونفوذه إذا ما قورنت بنفوذ طلعت مصطفى وقوته السياسية والمالية؟ الأدلة على طلعت مصطفى لم تكن بقوة ووفرة الأدلة التى تدين محسن السكرى، كانت هناك أدلة تكفى لإدانته لكنها لم تكن غير قابلة للجدل فيها، اتصالات تليفونية لم يذكر فيها صراحة اسم المجنى عليها ولكن يفهم ضمنا، مبالغ مالية مع السكرى، اعترافات للسكرى عاد وأنكرها، هذه الأمور تخضع لقناعة المحكمة فقد تقتنع بها محكمة وتقبلها ولا تقبلها محكمة أخرى، لذلك فرغم أن الإدانة كانت الأقرب إلى طلعت مصطفى فإن احتمال البراءة بالنسبة له كان قائما أيضا إذا لم تقتنع المحكمة بهذه الأدلة أو ساورها الشك القليل فيها، لكن المحكمة اقتنعت وقضت بإدانته وإعدامه. فى القانون المصرى الشريك فى الجريمة سواء بالتحريض على ارتكابها أو الاتفاق عليها أو المساعدة على تنفيذها يأخذ ذات عقوبة الفاعل الأصلى، هذا نص القانون ولكن عمليا جرى القضاء على التخفيف قليلا عن الشريك فليس من قال لشخص اقتل فلانا أو أحضر له أداة للقتل كمن ذهب بقدميه وقتل فعلا، وفى هذه القضية طلعت مصطفى لم يكن الفاعل الأصلى بل هو مجرد شريك فى الجريمة بطريق التحريض على ارتكابها فقط ووقف دوره عند هذا الحد، ولذا كنت أتوقع إن ثبتت التهمة أن يحكم بالإعدام على محسن السكرى، والسجن المؤبد أو المؤقت (خمسة عشر عاما) لشريكه المحرض طلعت مصطفى، ولكن كانت المفاجأة الحقيقية أن المحكمة لم تبد تعاطفا مع هذا الشريك صاحب النفوذ والثروة طلعت مصطفى وعاقبته بالعقوبة القصوى فى القانون وهى الإعدام مثله مثل مرتكب الجريمة محسن السكرى. إحالة أوراق المتهمين للمفتى هى مقدمة الحكم بالإعدام، وهذا الحكم الذى سيصدر بإعدامهما سيكون قابلا للطعن فيه بطريق النقض، بل إن الطعن بالنقض قد أوجبه القانون عند الحكم بالإعدام، وبالتالى سيكون معرضاً للإلغاء إذا توافرت إحدى حالات ذلك بأن شابه أى خطأ فى القانون أو الإجراءات. حكم الإعدام قد صدر - أو فى حكم ما سوف يكون - على واحد من أقوى أصحاب النفوذ والثروة فى مصر وأصدرته المحكمة الشامخة، رادعا صارما دون أدنى اعتبار لقوة المتهم وسطوته، فقط ما حوته أوراق الدعوى وما وقر فى ضمير المحكمة واقتنعت به، لذلك فأيا كان مصير هذا الحكم وأيا كان الرأى فيه فإن قيمة هذا الحكم ودلالته أنه أخرس ألسنة كثيرة درجت على تفسير أحكام القضاء وفق أهواء السياسة فأشاعت الفتنة بين الناس وهزت الثقة فى القضاء، وقد قطع هذا الحكم كل طريق على كل من يتطاول على القضاء المصرى، أقوى وآخر معاقل الثقة والاحترام فى مصر.