فى أيام الحرب الباردة بين دول المعسكر الشرقى فى أوروبا، بقيادة الاتحاد السوفيتى، وبين دول المعسكر الغربى بقيادة الولاياتالمتحدة، كانت الدول هناك تقيم حواجز عازلة تماماً بينها.. ولم يكن سور برلين على سبيل المثال حالة فريدة من نوعه.. صحيح أنه ظل قائماً لمدة 28 عاماً، من عام 1961 إلى 1989، وصحيح أن أى ألمانى شرقى خلال تلك الفترة كان يتعرض للضرب بالرصاص الحى إذا فكر فى عبور السور إلى ألمانياالغربية، حيث حياة الترف والرفاهية، وصحيح أيضاً أن الألمان يحتفلون هذه الأيام بمرور 20 عاماً على إزالته، وعودة البلدين بلداً واحداً، كما كان الوضع قبل عام 1961، وصحيح أن أى زائر إلى برلين الآن، يستطيع أن يتفرج على أجزاء منه لاتزال قائمة على سبيل الذكرى لا أكثر.. ولكن هذا السور لم يكن هو الوحيد الذى ظل يفصل بين بلدين لأكثر من ربع قرن، وربما كانت شهرته قد جاءت من أنه كان قد قسم بلداً واحداً إلى بلدين! ولكن.. هناك أسوار أخرى كانت أعلى وأقوى، ومنها مثلاً حاجز كان قد أقيم ليفصل بين ألمانيا وبين تشيكوسلوفاكيا بوصفها دولة شرقية تنتمى وقتها إلى المعسكر الاشتراكى، وكان السور شائكاً ومكهرباً، ولم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه، فضلاً بالطبع عن اجتيازه، وإلا سقط ميتاً فى مكانه! فلما سقط الاتحاد السوفيتى عام 1991، سقطت معه تلك الأسوار، ولم يعد لها وجود، وأصبحت أوروبا كلها تجمعاً واحداً يضمه الاتحاد الأوروبى، وصار فى إمكان أى أوروبى فى أى دولة من دول الاتحاد السبع والعشرين، أن يعبر إلى الدولة المجاورة لدولته بسهولة، وقد تقرر إزالة السور المكهرب بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، ولم يعد لذلك السور وجود، وتحول مكانه إلى ما يشبه المحمية الطبيعية التى تتحرك فيها شتى الحيوانات دون عائق! غير أن الذى يلفت النظر بشدة هناك أن الحيوانات جميعها تعبر مكان السور المكهرب، وتجرى فى حرية كاملة، إلا حيواناً واحداً هو «الغزال الأحمر»، الذى لايزال يبتعد تماماً عن المكان ولا يقترب منه، مهما كانت الإغراءات، وهو أمر كان ولايزال محيراً لعلماء الحيوان وغيرهم، إلى الدرجة التى أصبح بعضهم معها يتساءل عما إذا كان هذا النوع من الغزال لديه تاريخ ممتد فى دمه من الحكمة، التى يتواصى بها جيلاً بعد جيل! إن جماعات هائلة من البشر حولنا وفى كل مكان، تؤذى نفسها، وتدمر حضارات غيرها، ولا تتورع عن ارتكاب أحط الجرائم فى حقها، وفى حق جيرانها، ثم لا تجد حرجاً فى تكرار ذلك كله، مرة بعد مرة دون أدنى إحساس بالذنب، فإذا جئنا عند هذا النوع العجيب من الغزال، كان علينا أن نتوقف ونتأمل أحواله طويلاً، ونتعلم منه؟! فمن أين جاء بهذا العقل فى رأسه، الذى يجعله يدرك أن هذا المكان كان مكهرباً فى وقت من الأوقات، وكان يصعق أى كائن حى يحاول الاقتراب، وكيف أدرك الغزال الأحمر أن خطواته فى اتجاه السور تؤذيه فأصبح يتجنبها، ثم يتجنبها أيضاً أولاده الصغار وأحفاده؟! إنه يتصرف وكأنه قرأ وصايا موسى عليه السلام للإنسان!!