أكثر من حدث شكَّل طبيعة التغيير الذي طرأ علي تلك البلدان التي يزورها الرئيس مبارك في جولته الأوروبية الآن.. أي المجر وسلوفينيا وكرواتيا.. ولا يشمل ذلك، بالطبع، إيطاليا التي ينهي بها الرئيس جولته. الحدث الرئيسي هو ذلك الذي تحتفل به أوروبا بعد أيام، في نوفمبر، حين تحل الذكري العشرون لسقوط جدار برلين.. والثاني ساهمت فيه المجر ذاتها التي قضي فيها الرئيس مبارك يومه الثاني أمس.. فهي لم تكتف بأن فتحت الحدود المؤصدة مع النمسا طيلة الحرب الباردة.. بل فتحت أبوابها للاجئين الهاربين من قيود ألمانياالشرقية قبل سقوط الجدار. فيما بعد، وخلال عملية انتقال دول أوروبا الشرقية من معسكر الاتحاد السوفيتي إلي المعسكر الغربي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي نفسه، أو (العودة إلي أوروبا) كما قال فاتسلاف هافيل.. الأديب المعروف والرئيس التشيكي الأسبق، نجد أنها مرت بثلاث مراحل: تأسيس اقتصاد السوق ترسيخ حكم القانون بناء المؤسسات الديمقراطية.. وبعدها الانضمام إلي عضوية الاتحاد الأوروبي وعضوية حلف شمال الأطلنطي.. بما يعنيه ذلك من استراتيجيات جديدة علي المستويات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية. في غضون ذلك فجر دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي إبان حرب العراق (2003) مفهوماً هائلاً مايز بين (أوروبا القديمة) و(أوروبا الجديدة).. بناء علي مواقف كل منها من الولاياتالمتحدة وتحالفها في تلك الحرب.. إذ وجدت واشنطن تأييداً من الجدد لم تجده من القدماء.. وأثار هذا جدلاً كبيراً.. انتهي.. لكنه عاد لكي يطرح نفسه جدياً في أوروبا الجديدة.. خصوصا مع اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.. التي تضررت منها في أوروبا، دول أوروبا الجديدة، أكثر من غيرها. ويقول (فيكتور أوربان) الذي كان رئيساً لوزراء المجر بين عامي 1998 و2002 في مقال نشره مؤخراً: إن أهل أوروبا الوسطي (ومن بينها الدول التي يزورها الرئيس مبارك) لم يعد بوسعهم التطلع إلي دول أوروبا القديمة.. لأن أصل الأزمة المالية يعود إلي مشاكل تتعلق بشخصية أوروبا الغربية وشخصية الولاياتالمتحدة.. وأضاف: لقد نهبت الأموال.. والاستثمارات كانت رديئة.. ومحفوفة بالمخاطر.. والإدارة سيئة.. ولم يكن من بين أوروبا الوسطي أي من زعماء المال الفاسدين الذين أدوا إلي الأزمة المالية الدولية أخلاقياً! وليس ذلك هو الجدل الوحيد الذي تسوقه أوروبا الوسطي الجديدة الآن.. بل إنها تتضرر جداً من طريقة إدارة الأزمة المالية والاقتصادية.. لأنها كما يقول فيكتور أوربان: (تدابير اتخذت من العالم الغربي لتمنع بلداننا من الوصول إلي سوق الاتحاد الأوروبي.. وبالتالي علي دول أوروبا الوسطي أن تتحالف لكي تدافع عن مصالحها الخاصة... ومن أجل الدفاع عن الحلم الأوروبي). مالنا نحن في مصر وهذا الكلام.. وماذا يعني؟.. يعني ببساطة أن أوروبا يعتمل فيها تغيير جديد.. فيها صراع.. الأزمة تفرضه.. كل دولة من تلك الدول الجديدة لديها نوع من التقاطع مع دولة اخري في أوروبا القديمة.. مثلا المجر بينها وبين ألمانيا الكثير من المعضلات التي لا تنفي إيجابيات العلاقات.. وبالتالي فإن تلك الدول وهي تبحث لنفسها عن منافذ.. وعن مسارات مختلفة تحمي بها مصالحها.. فإنها تنظر إلي ما هو خارج أوروبا.. حتي لو كان ذلك حلاً جزئياً بالنسبة لها. ومن ثم فإن علينا ونحن نصنع سياستنا الخارجية أن ننتبه.. وألا نتعامل مع أوروبا علي أنها كتلة واحدة.. ففيها تنوعات رهيبة.. وتموجات متعددة.. وإذا كانت هي سوقاً واحدة تطبق فيها قواعد مشتركة بين دول الاتحاد الأوروبي.. فإن لكل من فئاتها مزاجه ومصالحه.. كما أن لكل دولة توجهها واهتمامها.. أنت لا يمكن أن تساوي مثلاً، بين كل الدول الشيوعية (التي كانت) بعد أن تغربت.. مثلاً دول أوروبا الوسطي كانت نظمها الشيوعية مختلفة عن دول البلطيق التي كان الاتحاد السوفيتي يعاملها علي أنها جزء منه.. كما أنه في أوروبا القديمة لا يمكن أن تساوي بين فرنساوألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا.. وهكذا. وبقدر ما يفرض هذا التنوع وتلك التقاطعات تحديات علي أي صانع سياسة لدولة إقليمية كبري مثل مصر.. فإنه قد يخلق فرصاً في الوقت نفسه.. أو لكي لا تصيبنا الشظايا لابد أن ننتبه.. ولكي نخلق الفرص لابد أن نبذل عملاً شاقاً.. ذلك العمل الشاق هو الذي يقوم به الرئيس بالفعل خلال تلك الجولة وغيرها.. ومن الطريف أنه يزور دولاً تجمعها جغرافيا متقاربة.. وتشابهات متنوعة.. لكنها متباينة اقتصادياً من حيث الأحجام.. كما أنه، وهو يقوم بتلك الإطلالة علي بعض من دول أوروبا الجديدة، فإنه يتجه إلي واحدة من أبرز القوي التقليدية في أوروبا القديمة.. أي إيطاليا. المجر في هذا السياق تبدو نموذجاً مهماً.. من حيث كونها، رغم تبعات الأزمة المالية العالمية، تمثل اقتصاداً صاعداً.. لابد من استلهام بعض قيمه وأسباب نجاحه.. وأبرزها: الإصلاحات القوية في الاقتصاد التأهيل العلمي للمواطنين نسبة الأمية تقريباً صفر انخفاض عدد السكان القدرة علي اجتذاب الاستثمارات. وإذا كان لدي المجر ما لا يقل عن 60 مليار دولار استثمارات خارجية.. فإن في حركة تلك الاستثمارات ما بين 3و4 مليارات دولار سنوياً.. لابد أن نعمل علي اجتذاب قدر منها.. وهي أسواق لم نكن نهتم بها قبل الأزمة العالمية الحالية.. وأعتقد أن هناك فرصاً سوف تكون متاحة في المجال الزراعي ومشروعات المياه ومشروعات تنقية المياه ونظم العلاج الطبيعي والمدن الطبية المتكاملة ووسائل النقل واستخدامات الطاقة المتجددة خصوصا الطاقة الشمسية.. إن في هذا كثيراً من الفرص كما بدا واضحا في اللقاء الصباحي الذي عقده المستثمرون والاقتصاديون المجريون للرئيس مبارك بالأمس. ونكمل غدا [email protected] www.abkamal.net