جاء الاحتفال والاحتفاء الأوروبي الأمريكي بمرور ستين عاما علي تحرير معسكر أوشفيتز النازي لافتا للانتباه من نواحٍ عديدة. وقد حرص رؤساء وزعماء أكثر من عشرين دولة في أوروبا وأمريكا علي حضور الاحتفالية لاحياء ذكري ذلك المعسكر الرهيب الذي أقيم في بولندا وقتل فيه حوالي مليون معتقل وأحرقوا في أفران الغاز الشهيرة. وكانت الكلمات التي ألقاها الرئيس الفرنسي جاك شيراك أمام النصب التذكاري الذي أقامته فرنسا لضحايا المحرقة النازية وكذلك كلمات الرئيس الروسي بوتين والمستشار الألماني شرويدر تعبر عن الاستنكار الشديد للجرائم البشعة واللاإنسانية التي ارتكبت في هذا المعتقل الكئيب الذي كان المعتقلون فيه يمثلون أكثر من 20 جنسية ودولة، كما ضم الأسري الروس في الحرب العالمية الثانية وعدداً كبيراً من اليهود البولنديين والألمان والفرنسيين الذين توزعوا علي ثلاثة معتقلات نازية أوشفيتز دخاو بوخنوالد. وتواكب مع الاحتفاء والاحتفال الأوروبي والأمريكي بذكري أوشفيتز تخصيص الجمعية العامة للأمم المتحدة جلسة خاصة هي الأولي من نوعها للاحتفال بهذه الذكري شارك فيها الكثير من الأعضاء بكلمات تدين النازية كفكرة عنصرية بغيضة تقوم علي القهر والقتل تحت مزاعم قومية شوفينية، مع التركيز بشكل خاص علي المعاناة التي لاقاها اليهود في المحارق النازية. ولقد قمت بزيارة لبقايا معسكر أوشفيتز ثلاث مرات كانت أولاها سنة 1968 وآخراها في أوائل التسعينيات ورأيت بنفسي غرف الغاز القاتلة والمحارق البشرية التي كانت أشبه بأفران الخبز البلدي مع فارق أن الوقود كان أجساداً بشرية. وسجلت وكتبت أدين هذا العمل الإجرامي الكئيب، وزاد من إحساسي بالمأساة أنني كنت خارجاً منذ سنوات قليلة من معتقل آخر كئيب، ولاحظت رغم عدم وجود أفران الغاز والمحارق إلا أن أوشفيتز كان نموذجاً يحتذي به بناة المعتقلات السياسية في جميع أنحاء العالم. فهناك الأسلاك الشائكة والمكهربة أحياناً التي تحيط بالمعتقل وهناك العنابر الطولية المتوازية التي يحشر فيها المعتقلون؛ وهناك الأبراش علي الأرض والأسرة الحديدية متعددة الطوابق، ثم هناك سياسة التجويع المنتظمة من خلال الطعام القليل والسيئ الذي يقدم للمعتقلين والضرب والإهانة المتواصلة للمعتقلين، ويبدو أن بناة المعتقلات وقادتها من الجنس السادي المعادي للحياة رغم اختلاف الجنسيات. وضحايا المعتقلات يستحقون منها التعاطف والمساندة سواء أكانوا يهوداً أم مسيحيين أم مسلمين، ومن هذا المنطلق فإننا لسنا ولا يجب أن نكون ضد الاحتفالات الواسعة التي جرت في أوروبا وأمريكا بمناسبة الذكري الستين لتحرير معتقل أوشفيتز، ولكن القضية أن هناك بعض الملاحظات التي ارتبطت بهذا الحدث المهم ليست بعيدة عن المضمون الحقيقي. * أولي هذه الملاحظات أن الاحتفالات هذه المرة كانت تركز بشكل خاص علي معاناة اليهود وسياسة الترانسفير والمحاربة التي ارتكبت ضدهم مع أنه من الثابت أن هناك الملايين من ضحايا المعتقلات النازية والذين تعرضوا أيضاً لغرف الغاز والمحارق من غير اليهود ويمثلون أكثر من 25 جنسية مختلفة علي رأسهم الأسري الروس وأيضاً الشيوعيون والاشتراكيون والليبراليون في ألمانيا وأوروبا، بل إن هناك ممن قتل في هذه المعتقلات مصريين في معسكر بوخنوالد، والبعض من جذور عربية وإفريقية. * الملاحظة الثانية أن هذه الاحتفاليات الواسعة بما في ذلك الجلسة غير المسبوقة للجمعية العامة للأمم المتحدة ربطت بين ماعاناه اليهود في المعتقلات النازية وبين تزايد ما يسمي بموجة جديدة من العداء للسامية تجتاح أوروبا وأمريكا، ولم يحاول أحد تفسير تلك الظاهرة الجديدة "العداء لإسرائيل" والتي تختلف تماماً عن مسببات العداء العنصري النازي القديمة، وترتبط بظروف ومعطيات جديدة ترتبط بسياسة دولة إسرائيل نفسها وممارساتها ضد الشعب الفلسطيني. وقد كشفت استطلاعات الرأي العام التي أجريت علي شعوب دول الاتحاد الأوروبي في العام الماضي أن 70% من المشاركين في الاستطلاع يرون أن إسرائيل تمثل الخطر الأول علي السلام العالمي ثم تأتي بعد ذلك دول مثل كوريا وإيران والولايات المتحدة نفسها. كما كشف استطلاع أخير قامت به جامعة ألمانية Belfield (بيلفيلد) أن أكثر من 50% من الأوروبيين يشبهون انتهاكات إسرائيل تجاه الفلسطينيين بتلك التي كان يمارسها النازيون ضد اليهود، وأن حوالي 70% من المشاركين رأوا أن إسرائيل تشن حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. * ثالثا هذه الملاحظات أن المشاركين في هذه الاحتفالية أقاموا الدنيا ولم يقعدوها حول سور برلين الشهير الذي كان يفصل بين برلينالشرقيةوبرلينالغربية واعتبروه نموذجاً لسياسات الفصل والعزل وانتهاك حقوق الإنسان بالرغم من أن السور كان يفصل بين مدينتين ألمانيتين تتبع كل منهما دولة عضوا في الأممالمتحدة ولم يكن السور الألماني مرتبطاً بفصل عنصري أو عرقي فالكل ألماني والكل منتم إلي الجنس الآري. وفيما أنهد سور برلين اعتبرت أمريكا والدول الغربية ذلك انتصاراً لمبادئ الحرية وهزيمة لسياسة الحواجز والأسوار والسدود الواقية والعازلة، بينما تمضي وتمتد الأسوار التي تقيمها إسرائيل علي الأراضي الفلسطينية المحتلة دون إدانة أمريكية وغربية واضحة رغم القرارات الواضحة للجمعية العامة للأمم المتحدة، ورغم الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية بإدانة السور والمطالبة بإزالته باعتباره تجسيداً لسياسات عرقية وتغييراً ديموجرافياً للأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا السور الذي وصفه إبراهام بورج رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق وأصدقاؤه في حزب العمل بأنه حول الأراضي الفلسطينية بل وأراضي إسرائيل نفسها إلي معتقل كبير يضم العسكر والمعتقلين وأخضع الجميع لأساليب العنف والكبت والخوف والاغتيال والدمار. * رابعة هذه الملاحظات أن إسرائيل مازالت ترفض التوقيع علي ميثاق المحكمة الجنائية الدولية التي وافقت عليها 150 دولة وبدأت تمارس أعمالها منذ عامين، وإسرائيل مازالت تتحفظ علي بعض بنود المحكمة الدولية تحت دعوي أن المحكمة تخضع لاعتبارات سياسية وأن بعض هذه البنود قد تستخدم ضد إسرائيل والقوات الإسرائيلية وإتهامها بارتكاب جرائم حرب علي أساس تغيير الطبيعة الديموجرافية للأراضي المحتلة. هذه مجرد ملاحظات نسوقها لكشف التناقض المرير الذي تعبر عنه هذه الاحتفاليات، بين ماضٍ كئيب لسياسة المعتقلات والمحارق النازية الذي تدينه بشدة، وبين واقع معاصر لسياسات القهر والاحتلال الإسرائيلي لابد أن ندينه أيضاً وبشدة.