تعودنا ألا نحتفى كما يجب بجوائز الإبداع فى مجال الإدارة وعلومها وبالفائزين بها، فى الوقت الذى نشكو فيه مر الشكوى من مشاكل الإدارة فى شركاتنا ومؤسساتنا، ورغم أن الحال يصل بالبعض إلى أن يقول إن أصل كل مشاكلنا كدولة أو دول عربية هو الإدارة. وقد كتب كثيراً إننا نحتفى بالفنان المتواضع الموهبة أو لاعب الكرة أو المطرب الناشئ أكثر كثيراً من العالِم، وهذا صحيح فى عمومه لكن الموقف أفضل نسبياً فى مجال تقدير الفائزين بجوائز العلوم الطبيعية (كيمياء وفيزياء وأحياء.. إلخ) والهندسة بفروعها عن الفائزين فى مجال العلوم الاجتماعية وأهمها علوم الإدارة، ولا أنكر هنا أن جزءاً من السبب وراء قلة تقدير أهل علم الإدارة يعود إلى سطحية كثير من الكتب الخاصة بهذا الفرع، والتى يتم تدريسها للطلبة فى كليات التجارة المكدسة وغيرها، فهى مجرد ملازم محلية الطابع وروتينية ومصادرها ومراجعها قديمة ولا تغرى أحداً - غير الطلبة المجبرين- على قراءتها فى الداخل أو الخارج، فى حين نجد أن كتباً لعلماء إدارة بالخارج تباع منها نسخ بالملايين ويشتريها حتى القراء العاديون للاستمتاع والإفادة مما بها من خبرات إنسانية متنوعة، كما أن عدد الأساتذة المرموقين فى الإدارة فى مصر- والعالم العربى - قليل ولا أكشف سراً حين أقول إن نسبة ليست قليلة من مبعوثينا إلى أمريكا لنيل الدكتوراه فى الإدارة مثلا لا ينجحون فى امتحان القبول الذى تجريه الجامعات الكبيرة لراغبى الالتحاق بها ولا يتم قبولهم إلا فى جامعات متواضعة. وقد تم منذ أيام قفل باب الترشح للفوز بجائزة الشارقة لأفضل أطروحة دكتوراه فى إدارة الأعمال بالوطن العربى فى دورتها التاسعة، ومن المقرر أن يتم إعلان أسماء الفائزين فى ديسمبر المقبل، وإنى لأدعو من الآن إلى أن نولى هذا الحدث ما يستحق من عناية، وأن نجعل الرأى العام طرفاً أصيلا فى هذه العملية بأن نقدم الفائزين ونظرياتهم وابتكاراتهم إليه بطريقة مبسطة وأن نوضح جديدها وأهميتها. الشعوب التى تحققت لها درجات عالية من الرفاهية تعرف أن ذلك لم يتم إلا بفضل الإدارة الحديثة والإنتاجية العالية والقدرة على الاستمرار فى سباق التنافسية المحتدم بين الكبار فى الملعب العالمى. وحين تكسب شركات وتخسر أخرى وتتقدم مؤسسات وتتأخر أخرى- حتى ولو كانت مؤسسات كروية - فإن السر الذى لا يجهله أحد وراء ذلك هو الإدارة وإن كنت أعرف أن أناسا يطيب لهم أن يرجعوا مثلا فوز الأهلى وخسارة الزمالك دائماً إلى وقوف الحظ والحكام مع الطرف الأول، وحسن الإدارة يضاده عادة العشوائية والفوضى والارتجال والنتيجة المصاحبة لها هى الفشل والفساد. إن الإدارة الكفؤ تعنى القيام أو توجيه عمل إلى النجاح والربح مع الالتزام بالمعايير والقوانين سواء فى الصناعة أو قطاع الأعمال أو تقديم الخدمات، وأصبحت الإدارة علماً وفناً وتكنولوجيا وغدت خاضعة للبحث والتحليل والتطبيق وقياس النتائج، وظهر أفذاذ فى الإدارة بأمريكا ثم أوروبا وآسيا، كما ظهرت نظريات أثرت بشدة فى مجريات المنافسة العالمية مثل الجودة الشاملة التى سبقت بها اليابان غيرها - كما أوضحت سابقا- وأخذت الإدارة الحديثة طابعاً منظومياً وتشعبت تخصصاتها لتشمل التسويق والتمويل والموارد البشرية والتدريب والمحاسبة وغير ذلك مما لا غنى عنه لجعل المؤسسة تؤدى عملها بكفاءة وانتظام وتتمكن طول الوقت من القيام بنجاح بإعمال التخطيط والتنظيم واختيار الشخص المناسب للمكان المناسب والتوجيه وتحفيز العاملين والمتابعة ومراقبة الجودة والتكاليف. لا تقف الإدارة الحديثة عند إصدار الأوامر والنواهى والتوجيهات ولكن تهتم بالتحكم فى مسار الأداء والقياس المستمر للنتائج واستخدام المؤشرات المختلفة لتصحيح أى انحراف عن الهدف، وهناك مدارس عالمية شهيرة فى مجال إدارة الأعمال حالياً على رأسها فى أمريكا مدرسة إدارة الأعمال فى «هارفارد» و«ستانفورد» و«وارتون» و«نورث ويسترن» وكل منها له أسلوبه وتخصصاته التى برع فيها وساعدته على الوصول للقمة فى التصنيفات العالمية، وفى فرنسا هناك «انسياد» وفى إسبانيا «إياسا» وفى الهند «مدرسة الهند بحيدر أباد» غير ما هو فى اليابان وكوريا والصين وسنغافورة، وقد فضلنا أن نعمل مع الإسبان بعد أن تفوقت «إياسا» على «هارفارد» فى تصنيف «الإيكونوميست» الخاص بتعليم مديرى الأعمال لأن «إياسا» تعتمد على دارسة الحالة أكثر من التلقين والبحث وقد أخذت ذلك عن «هارفارد» لكنها طورته وتفوقت فيه. وقد أصبح ماجستير إدارة العمال «إم بى إيه» مقصداً لخريجى كل التخصصات الأخرى لأنه يرسى قواعد يجب أن يكون كل مدير لشركة أو مشروع أو مؤسسة ملماً بها. كانت مصر قد أدركت مبكراً أهمية الإدارة فأنشأت فى أوائل الستينيات من القرن الماضى المعهد القومى للإدارة العليا الذى أخرج قادة أعمال متميزين أداروا بكفاءة جيدة المشاريع التى أقامتها الدولة وقتذاك، كما حاضر فيه أساتذة أجلاء مثل فؤاد شريف وإبراهيم حلمى عبدالرحمن وعلى السلمى وإبراهيم سعدالدين وعبدالعزيز الشربينى والدكتور حامد كمال الدين الذى اقتربت منه حين عمل فى أوكلاهوما بأمريكا وأنشأ المجلة العلمية الدولية عن الكمبيوتر والهندسة الصناعية، وقد أقام المعهد الدولى للهندسة الصناعية الذى عمل به هناك جائزة سنوية باسمه بعد وفاته، لكن النظر إلى حال الإدارة علما وممارسة فى مصر والوطن العربى الآن يقول بوضوح إننا لم نحرز النجاح المبتغى، والذى دونه لن ندخل منظومة التنمية العالمية والرخاء.. ولكل ما تقدم فأنا أحيى مبادرة الشارقة ومثيلاتها لأنها تستشرف المستقبل وأدعو كل الجهات المعنية، وعلى رأسها المنظمة العربية للتنمية الإدارية، والجامعات الكبيرة إلى تقديم مزيد من الجوائز والحوافز حتى نحقق إضافات قوية فى هذا العلم نعوض بها ما فاتنا. رئيس جامعة النيل