هكذا مضت أربعة عقود على رحيل كوكب الشرق " ام كلثوم" ، فقد وافق الثالث من فبراير الجارى ذكرى رحيلها الأربعين، حيث احتفلت بيروت "الجميلة" بذكرى رحيلها من داخل أروقة قصر (الأونيسكو)- الذى سبق وأن شدت بأرجائه فى الخمسينيات - وذلك بالتنسيق مع وزارتى الثقافة المصرية واللبنانية وكذلك السفارة المصرية. جاءت الإحتفالية بعنوان "مهرجان ذكرى أم كلثوم"، وقد احياها مطربات من مصر وتونس والمغرب ولبنان تغنوا بروائعها التى ملأت القاعة بعبق همساتها المنسابة من زمن الماضى الجميل، كما لوكانت الكلمات والألحان أستحضرت روحها المحلقة، فأخذت تراقب من خلف الستار نسيمها الفواح الذى يجوب الأركان وابداعها الفتى الذى لا يخفت ولا يغيب . والسؤال الذى يفرض نفسه : هل نشعر حقاً برحيل " ثومه " وغياب إشراقها عن القلوب طيلة أربعة عقود مضت ؟ والواقع أنها لا توثق فى كل لحظة سوى خلود فردوسى بالروح والقلب ، فقد بلغت مكانة من الوجدان لا ينازعها فيها سواها . ورغم غياب سطوعها عن عالمنا، لكن دفء لياليها الطربية وإحساسها المتراكم بداخلنا ظل يلف العالم العربى بأسره، وكأنها تشدو كعادتها فى الخميس الأول من كل شهر بذلك الحفل المهيب الذى طالما انتظرته الجموع لتنعم بخشوع الإستماع وتستنشق شذى (ربيعها ) وأزاهير (احساسها) . انها حقاً " ربيع العاطفة "...! ستظل السيدة أم كلثوم أو " الست " - كما يحلو لمحبيها تلقيبها - تسكن القلوب وتنثر عطرها الفواح فى بهو الزمان... يجيب صدى كلماتها على القلوب الظمأى فيرويها، ويتراقص شدوها الصافى على جوانب الروح المجهدة فيُداويها ... ويتجلى عنفوان صوتها بلحظات حنين آسرة فيؤنِسها ويرضيها . عندما راقنى وصف " ثومة" ب" ربيع العاطفة "، لم أكن أصفها وصفاً فضفاضاً، بل عنيت تلك الحالة التى خلقتها بقلوب من مرَوا بأطياف روحها وبأحلام هواها وكان على رأسهم الشاعر العاشق "أحمد رامى" والملحن العبقرى "محمد القصبجى" . ولكن بقى خلف كل هذا الإبداع "لوعة" العشق وجنوح الهوى ، يرتلان معاً ترانيم الغرام ... فكان " القصبحى" عاشقاً ولِهاً...صامتاً فى حبه حد الفناء، خاشعاً متعبداً فى حرم "العود"... ينزف ألحاناً خلفها على خشبة المسرح مكتفياً بنفحاتها وشذرات أنفاسها التى كانت تهديه طمأنينة وجودها المؤقت الى جواره .لم يجاهر ولم يفصح، ولكن وشت ألحانه بحنينه الجارف ، وهمس صمته بعاطفة مجردة لا تسأم "غفلة " المحب مهما تعاظم نكرانه ومهما نأى شعوره . أما العاشق الجامح " رامى " فظل حبه لأم كلثوم حباً منزهاً بلا غرض أو أهداف ، كرس سنواته فى تقديم القصائد لها رافضاً أن يتقاضى أجراً لعشقه العذرى ، كان مفتوناً بإبداعها وشموخها ، يراها كالقيمة التى نعشقها دون المساس بها أو حتى الإقتراب منها ، فقد وصفها ب " الأهرامات " و" نهر النيل "، كان مكتفياً بألا يطفىء جذوة هذا الحب ليظل دافىء الحس ..غزير التعبير .. فتىّ العاطفة بحيث لا تدركها شيخوخة الأيام وبرودة الإمتلاك ، أراده حباً "ربيعياً " لا يتبعه خريف . وكان ( رامى) يمارس طقوساً خاصة عند الإستماع الى " أم كلثوم" ، فعندما يقرر الذهاب الى حفلتها يتأهب لذلك كثيراً ..وفى ذلك يقول: ( أحب أن أقضي وقتاً قبل سماعها وأنا وحدي حتى ينمحي كل جرس من أذني عدا صوتها المنتظر ..ثم أدخل قبل رفع الستار بقليل ، حتى إذا رفع الستار ملأت عيني منها في لحظات . ثم تبدأ الالآت تعزف فأدرك حجم هشاشتها قبيل إطلالة صوتها ،ولستُ أعرف أحداً ممن يغنون يطرب لسماع أولى همسات الأوتار كهذه الشادية ، وإذا ما سَمِعتْ رجع الأنغام أصابتها رعشة خفيفة ثم تدب بقدميها دباً خفيفاً كأنها تنقر بهما على أوتار خفية حتى إذا خَفَت النغم أنساب صوتها ليناً رقيقاً كما ينبعث النور من الشرق ليصبح مغلفاً بعبير اللحن الساري، وهي في كل هذا تدور بقدميها تحت ثوبها الفضفاض كأنها تسحق عود الريحان حتى يشتد أريجه ،فاذا بلغت القمة في الغناء ،ذهبت بنظراتها الى الفضاء، ونسيت أنها تغني للجمهور، وكأنها وحيدة مع الشفق في برج فسيح تغرد مع الطير)...الله يا " رامى " ما اروعك أيها العاشق !!! وفى لحظة تأمل عميق لماهية هذه العلاقات الفريدة التى ربطت كوكب الشرق " ام كلثوم " بعظماء جيلها ، تتكشف تلك الخصوصية والروحانية التى وهبها الله اليها متجسدة فى صوتها الذهبى ، فمن عشقوها اختاروا أن يجعلوا من عذاباتهم وقوداً لموهبتها وإعلاءً لإبداعها .. خسروا معها رهان الحب ولكنهم ظفروا بذكرى التاريخ الوفية لها ولهم ..فكان تراثهم الغنائى المشترك مأدبة دسمة لكل من أراد أن تعتمر روحه بلمسة حب (عذرية ) ونفحة عطر ( ربيعية ) شيرين ماهر شيرين ماهر