كعادتها كل يوم جلست تقلب قنوات التليفزيون ... تنتقل من قناة لآخرى دون ان تتابع شيئا بعينه او تهتم لشيء .. ليست من المهتمات ببرامج التوك شو او كما تسميها متهكمة برامج الكبريت شو وليست من مدمنات المسلسلات التركية التي اصبحت الونيس الأمثل لمن هن في مثل عمرها .. والقنوات الإخبارية تدمي قلبها وتجعلها تبكي كلما شاهدت ابرياء يموتون بأيدي حكامهم الذين عشقوا السلطة لدرجة اعمتهم عن رؤية بشاعتهم ولأي درجة تكرههم شعوبهم وتريد التخلص منهم ومن ظلمهم ... كذلك امتنعت عن مشاهدة القنوات الدينية بعد ان واظبت على متابعة بعضها لأشهر لكنها توقفت فجأة عن مشاهدتها وطلبت من ابنها ان يحذف تلك القنوات بعد أن خرج احد المشايخ بعدة فتاوى عن المرأة بدأها بعدم اهليتها للعلم والتفكير وكل نشاط عقلي جعله حكرا على الرجل فقط دون المرأة دون ان يستند الى اي دليل من الكتاب او السنة متناسيا تكريم ديننا للمرأة واحترامه لها .. تبعتها فتاوى تكفيرية لغير المسلمين وكانت الطامة الكبرى حينما خرج نفس الشيخ يسب الجهلاء ممن سخروا من فتوى ارضاع الكبير الشهيرة، مؤكدا انها واقعة صحيحة ومؤكدة ومؤكدا ضرورة ان يرضع الكبير رضاعة فعلية بأن تلقمه المرأة ثديها ... يومها جلست تضرب كفا بكف وهي تردد: لا حول ولا قوة الا بالله لا حول ولا قوة الا بالله اقترب منها ابنها متسائلا بابتسامته المعهودة التي تنير قلبها كلما شاهدته الجميل ماله؟ .. مين مزعل مزتي. حكت له ما سمعته يومها من ذلك الشيخ ... فضحك طويلا كعادته. قلت لك الا تشاهدين تلك القنوات .. انهم يتحدثون عن دين آخر غير ديننا هم لا يعرفون شيئا عن سماحة ديننا ولا يتبعون منه شيئا غير نكاح اكبر عدد ممكن من النساء ... يا أمي تأكدي انكِ وكل مسلم في هذه البلد يعرف عن دينه ويفهم فيه اكثر كثيرا من اي من هؤلاء، ديننا رائع ولا اعرف لأي غاية يشوهونه هكذا. تستمع اليه .. تنظر اليه بحب وفخر .. كم تحب آراءه .. تحب شغفه بالحياة .. حين شارك في ثورة يناير كانت قلقة عليه حاولت مرارًا أن تمنعه عن النزول لميدان التحرير .. تشاجرت معه .. قاطعته .. كان يقبل رأسها ويقول: أعلم انك غير غاضبة مني .. اعلم ذلك. يقولها وينزل للميدان تغالبها دموعها تقضي الدقائق والساعات تترقب وصوله تنظر الى الساعة كل عشر ثوان ولا تهدأ حتى يعود بصخبه المعتاد يأكل وهو يحكي لها عما شاهده في الميدان .. عن الإصرار في عيون الشباب والفتيات .. عن الحلم الذي يكاد يتحقق ... عن النكات التي يطلقها المتظاهرون عن قنابل الغاز ورصاصات الأمن التي لم تعد تخيفهم ... عن شاب وفتاة عقدا قرانهما بالميدان .. عن اغاني الميدان ... كان يحكي بحماس وتستمع هي بشغف ... وبعد التنحي كانت فخورة بان ابنها احد الذين شاركوا في صنع التاريخ ... تعود تقلب في القنوات وتنظر الى ساعة الحائط .. كعادة الدقائق في غيابه تمر بطيئة .. ثقيلة .. وكأن عقارب الساعة تحمل فوقها حجرا ثقيلا يعرقل سلاسة حركتها ... تفتح النافذة فيستقبلها هواء بارد ترتعش له اوصالها .. تغلقها بعد ان تلقي نظرة سريعة على الطريق .. تدخل الى غرفته تتلمس اشياءه .. تفتح الدولاب تقف امامه تنعش قلبها برائحة ملابسه .. ثم تنتقل الى صوره المثبتة على الحائط في لوح خشبي كبير ... صور له مع اصدقائه في الجامعة .. صورة فتاته .. صور له في الميدان .. صورته في الاستاد مع مشجعي النادي الأهلي الذي يعشقه ويتبعه في كل مكان ... يرن جرس الهاتف .. تجلس على طرف سريره وترفع سماعة الهاتف .. يأتيها صوت ندى .. الفتاة التي شاركتها في قلب وحيدها .. انا بخير يا ابنتي في انتظار عودته لا تبكين هو بخير تضع سماعة الهاتف وتتعجب من كل هؤلاء المعزين الذين مروا بها خلال الأيام الماضية ... لماذا يصرون على تعزيتي ابني حي يرزق اسمع نبضات قلبه تنبض داخل احشائي ارى قبضته الصغيرة تمسك بإصبعي اتشمم رائحته الندية التي لا تضاهيها رائحة اخرى جمالا تأسرني ابتسامته ويسحرني صوت ضحكاته أراه يخطو اولى خطواته وهو يتعلم المشي استمع الى كلاماته الأولى ووحدي استطيع ان أفك شفرات تلك الكلمات واستمتع بشرحها للآخرين اراه سعيدا بدراجته الأولى متذمرا من الذهاب الى المدرسة في اول ايامه به سعيدا بتفوقه وامتداح معلمته له جمعته الأولى التي يصليها في المسجد بصحبة والده فرحته بقدوم رمضان وبكاؤه كلما استمع الى غنوة هل البدر بدري والتي تعني اذاعتها ان رمضان اوشك على انتهائه شغوفا بكرة القدم وعالم السيارات الذي يعشقه مشغولا بفتاته الأولى خجولا من علامات الرجولة التي اخشن معها صوته وخط لها شاربه ساهرا ليلة الامتحان يذاكر حينا ويسهيني احيانا بمطالعة روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف ادريس فرحا سعيدا بتفوقه في الثانوية العامة والتحاقه بالكلية التي طالما حلم بها شغفه باغاني منير وعلي الحجار وعبد الحليم وثومة وفيروز عشقه لسعاد حسني وشادية وافلام الأبيض واسود صخبه حين يدخل البيت فيحول كل شيء فيه من السكون الى الحركة وكأن انفاسه تجعل الحياة تدب داخل كل شيء حتى الجدران مداعبته لي وتدليله لي كلما احتاج الى شيء قبلته التي تطبع على خدي صباحا ومساءً ابني حي تضع رأسها على وسادته تملأ حواسها برائحته .. تهمس انك حي هنا تشير الى قلبها وتنام.....