كانت الدموع تنهمر من عينيها وهى تتابع نشرة الأخبار، وتستمع لنبأ الإفراج عن المتهمين بالفساد والسرقة وإذلال الشعب لسنوات طويلة.. سيدة فى نهاية العقد السادس من عمرها.. بنظرة واحدة لها يدرك أى إنسان أنه أمام حطام امرأة. لحظة وسمع صوت ارتطام بالأرض.. جاء حفيدها سعد مهرولا.. اتسعت عيناه وبنظرات يملؤها الفزع قفز ليحمل جدته.. تيته.. تيته.. فيه إيه مالك.. لم يجد لمحاولاته جدوى.. حملها وهو يبكى ووضعها على الأريكة.. أصيب بالارتباك ولم يعد يدرى ماذا يفعل. قفر وهو يعدو وفتح باب الشقة.. صعد السلالم جريا وأخذ يطرق بكلتا يديه على شقة جارهم الطبيب.. فتح الباب.. وبنظرة واحدة أدرك الرجل الأمر.. دوت صوت سارينة الإسعاف فى الشارع الهادئ وهى تنطلق فى طريقها. من وراء الحاجز الزجاجى أخذ ينظر لجدته وصدرها يعلو ويهبط مع انبعاث صوت منتظم من جهاز التنفس الصناعى.. كان العديد من الأطباء والممرضات يحيطون بها.. شعر بصوت ورائه.. كانت أمه تبكى ولا تستطيع الكلام ووالده يربت على كتفها ويواسيها بالكلمات. تجمعوا حول الطبيب.. وبكلمات قليلة وصوت يحاول به أن يبدو متعاطفا معهم شرح لهم حالتها.. جلطة بالمخ وإن شاء الله أملنا فى التحسن كبير. نادت الممرضة ثريا يا دكتور أمجد إلحق المريضة سرير تلاته فتحت عينيها وبتحاول تتكلم.. جاء مسرعا.. أعطى تعليماته.. كان يبدو عليه السرور.. لايعرف لماذا كان متعاطفا مع هذه الحالة.. كان وجه المرأة كالملائكة وكان طوفان الحزن والحب الذى يبدو على أهلها كلما أتوا للاطمئنان عليها قد انتقل للطاقم الطبى فأصبحوا يشعرون بعاطفة ناحيتها ورغبة جارفة بالنجاح فى مساعداتها للنجاة مما هى فيه. كانت الحالة تتحسن يوما بعد يوم.. استعادت جزءا من وعيها وبدأت تنظر بعينين منكسرتين لما حولها.. حاولت أن تحرك جانبها الأيمن فلم تستطع.. حاولت أن تتكلم فوجدت شيئا يؤلمها منحشرا فى حلقها.. أدركت الأمر. بللت دموعها وجنتيها مع صوت نحيب لايكاد يسمع مع تسارع نبضات قلبها.. أخذت الممرضة تربت على رأسها برفق تحاول تهدئتها.. سكنت حركتها وخف صوتها وأغمضت عينيها. دخل عليها زوجها.. نظر إليها نظرة لم تفهمها وهو يبتسم.. جلس.. خلاص يا عديلة أخذت قرارى.. أنهيت عملى بكفاية عشرين سنة غربة. وهو يرشف الشاى.. وضعت تحويشة العمر فى شركة توظيف أموال مضمونة.. الناس بتشكر فيها كتير.. صاحبها راجل أمين وعنده ذمة ودين.. سنوات والحياة تمر فى سلام و سعة ودعة.. كانوا ينعمون بالحياة بين أولادهم وأحفادهم. فى يوم حفر فى ذاكرتها دخل عليها زوجها.. ارتمى على أقرب كرسى.. فيه إيه ياسالم..؟؟ كان يبتلع كلماته ووجهه يكسوه الألم.. اتحفظوا ووضعوا إديهم على شركة توظيف الأموال. كانت الأحداث سريعة.. كانوا لا يستطيعون استيعاب ما يجرى.. كان زوجها يذهب فى الصباح ويأتى فى المساء منهكا حزينا.. أيام معدودات تغير حاله فيها من إنسان يعشق الضحك والحديث، إلى إنسان بائس.. عينان تنظران ولسان صامت. قام بتسوية رصيده مع من وضعوه مسئولا عن الشركة.. أعطوه أقل من نصف ماله بضاعة.. أكياس من المكرونة.. قام بمحاولة بيعها وكأنه يتسول.. فى النهاية باعها بنصف قيمتها.. فلوسنا راحت ياعديلة هنعيش إزاى..؟؟ كانت هذه آخر كلمات نطق بها. عاشت من بعده على فتات ما تبقى لها من مالهم.. كانت تشعر بالحسرة تعتصر قلبها عندما يأتى إليها أولادها ببعض الأشياء لتستطيع أن تعيش حياة كريمة.. كان الحزن يجتاحها كالفيضان عندما تسمع وتقرأ كيف نهبت وسرقت أموالهم وكيف أن الشركات بيعت ووزعت على المحاسيب. سنوات وهى تعايش أحزانا وتجتر ذكريات تريد أن تنساها ولكنها لاتستطيع.. دخل عليها أولادها جميعا يوما والدموع تملأ عيونهم.. اجتاحها كالزلزال خبر استشهاد حفيدها فى ميدان التحرير وهو يطالب برحيل الفساد.. اكتملت دائرة الخسران فى ذلك اليوم.. تذكرت موت جده بالحسرة منذ سنوات طويلة.. القاتل واحد.. أصبحت شبح إنسان منذ ذلك اليوم.. لاتتكلم إلا نادرا.. عينان تنظران وجسد بالكاد يتحرك. فجأة دوى صفير حاد من جهاز التنفس الصناعى وظهر خط مستقيم على شاشة جهاز المراقبة.. مرت ساعة وكان أولادها حول سريرها فى بكاء صامت.. نظروا إليها.. كانت عيناها مغمضة وعلامات ألم شديد تجمدت عليه ملامح وجهها. وقف ابنها ينهى الإجراءات للإفراج عن جثمان أمه.. قام بدفع مبلغ تسعة آلاف جنيه.. فى نفس اللحظة كان صوت التلفاز فى بهو استقبال المستشفى يعيد إذاعة خبر الإفراج عن السيدة سوزان ثابت بدون كفالة لأنها تنازلت عن أملاكها للدولة.