فما أن نادى اليهودي الذي رآه قادماً: "يا معاشر العرب هذا جدّكم (أي صاحب دولتكم) الذي تنتظرون"، إلّا وثار المسلمون إلى سلاحهم وأحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلّم من كل جانب ليمنعوه، ومن ساعتها وهم يتناوبون على حراسته، إنّها لحظة تحول عجيبة، تحول فيها صلى الله عليه وسلّم من الاستضعاف إلى التمكين. فمنذ بضعة أيامٍ كان يقول له الصديق رضي الله عنه وهما مختبئين في الغار: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا"، بل منذ لحظات قليلة كان الصِدّيق رضي الله عنه يمشي ساعةً من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلّم وساعةً من خلفه ويقول: "يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك". إن الأنصار نالوا شرف أن يكونوا هم سبب هذا التحول العظيم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ولم ينس الرسول صلى الله عليه وسلّم لهم ذلك، وعبّر عنه بعد ثمان سنوات كاملة عندما قال لهم: "أما لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكَذَّباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك. لو سلك الناس شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار (والدثار هو الثوب الذي يكون فوق الشعار، كناية عن أن الأنصار أقرب إليه من باقي الناس) اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". وقال تعالى للمؤمنين بهذا القرآن في كل مكان وزمان: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) الصف 14.