سوف تدهمُك الأشباح من أول سطرٍ في هذا الكتاب، وربَّما حين تنتهي منه تكتشف أن هذه الكائنات الهشَّة طالما كانت حاضرةً كغريبة، لا تمشي إلاَّ في العتمة، ولا يشبعها سوى الألم. الأشباح في الكتاب الجديد للدكتور شاكر عبدالحميد الصادر مؤخراً عن دار ميريت بعنوان "الفن والغرابة"، إذن مفهومةُ أكثر من أي وقتٍ آخر، مُحطَّمة وتعيسة ومقسمة، مثلنا تماماً، ربما لأنها وليدة العُزلة، ورغم ذلك، تبقى للأشباح فضيلتُها، في هذا الكتاب، يكفيها فخراً أن وجودها يغذي معنى الغرابة ويمدنا بدلالاته. جولة واحدة مع هذه الكائنات تكفي للظنّ بأنها الأكثر حضوراً في الوجدان الجمعي، ثبتَّها التشكيليون في لوحاتهم عبر الزمن، ورسمها بعض الشعراء في قصائدهم اعترافاً بمركزيَّتها وتأثيرها على الحواس، وذهب الفلاسفة وعلماء النفس وراءها كل مذهب. لذلك يفنِّد الكتاب الغرابة ويتبنَّاها، لكي يستطيع اقتراف طريقة لفهمها، في زمن يميل المبدعون فيه إلى إعادة إصدار الواقع حرفياً باسم "الفن"، ويتعمَّد مُنظِّروه إعادة توجيه اللوم إلى الواقع تحت لافتة "النقد"، من دون أن يفكرَ أحدٌ في الالتفات إلى تلك الفجوة الهائلة في الروح، إلى اللحظات الهاربة من التاريخ والجغرافيا والقوانين والمسلَّمات ويتهرب الجميع من استدعائها لأنَّها لطمة على العقل. لا يكتفي الدكتور شاكر عبدالحميد بذلك في الحقيقة، بل يقرأ حركتي الفن والأدب عربياً وعالمياً في انحيازهما إلى هذا الجانب المعتم من العالم، بعدما بذل جهداً كاملاً في تحقيق الكلمة وتجذيرها وتفكيك معانيها في اللغات والثقافات المختلفة، لدرجة أنك تبدأ في الاعتقاد بأنَّ الوعي الذي يستخفّ بالأفكار الميتافيزيقية ليس وعياً على ما يُرام. الفصول التسعة للكتاب تتجوَّل بين نظريات الغرابة وتجلياتها وعلاقاتها المتنوعة بالمكان والتكنولوجية والمسرح والفن التشكيلي والسينما، معتمداً على تعريفات أهمَّها أن "الغرابة هي اسم لكل شيء ينبغي أن يظلَّ خفيَّاً وسريّاً، لكنه على الرغم من ذلك يتكشَّف ويظهر"، بينما يتوقف بالفكرة عند "المدهش" والجليل في التراثين العربي والغربي، إلى أن يصل إلى "أشباح ماركس" كتاب جاك دريدا الأشهر، والذي يقول إنه جعل تأثير فكرة الغرابة منتشراً في الأوساط الأكاديمية والثقافية عامة، لدرجة أن المفكر "مارتن جي" اعتبر أن الغرابة هي تقريباً "المزاج السائد للعقد الأخير من القرن العشرين". الغرابةُ عمرها إذن من عمر الإنسان، لكن الدكتور شاكر توقف ليتفحَّصها، معيداً الاعتبار لأسلاف شدتهم أشباحُهم إلى الموت وأعادتهم مرة أخرى إلى الحياة بخفة طائر، دون أن تدرك عقولهم هذه الكائنات التي طالما ألهمت الوجدان وأثارت الفضول والألم، وغالباً ينسحب العقل من هذه مثل المنافسة اختيارياً، تاركاً المهمة للوجدان، الذي سرعان ما يجد ضالته في دهاليز الفن.