في بداية 2010 صدر كتاب "الفن والغرابة" عن دار ميريت، وفي نهاية العام نفسه صدرت طبعة مكتبة الأسرة منه. هكذا تم اختتام عقد غرائبي وافتتاح ألفية يبدو أنها ستكون أكثر غرابة. الكتاب، الذي كتبه الناقد وأستاذ علم النفس شاكر عبد الحميد حمل عنواناً فرعياً هو "مقدمة في تجليات الغريب في الفن والحياة"، واستطاع فيه عبد الحميد مراجعة فكرة الغرابة في مساحة واسعة جداً من الأعمال الفنية. تنتمي لأجناس مختلفة، مثل الفن التشكيلي والمسرح والسينما، كما يضم الكتاب فصلاً عن علاقة الغرابة بالتكنولوجيا، وبالمكان. من هاملت إلي دريدا، ومن سقراط إلي ماركس، ومن فرويد إلي هومي بابا، يبحر بنا عبد الحميد في رحلة ممتعة تماماً تتمحور كلها حول فكرة "الغرابة". وفي تأصيله للفكرة ، ينقل حكاية سقراط عن ليونتيوس الذي كان عائدا من المعبد ذات مرة ورأي جثثا ممددة وشعر بالرغبة في إلقاء نظرة عليها، وأحس _ في الوقت ذاته _ بالنفور وحاول الابتعاد عنها، فظل لحظات يقاوم نفسه وقد حجب وجهه بيديه، ولكن الرغبة غلبته أخيراً، ففتح عينيه الواسعتين وهرع نحو الموتي هاتفاً: "فلتمتع عينيك أيها التعس بهذا المنظر الرائع". يفسر سقراط هذا الموقف بأنه يجسد صراعاً بين الحكمة _ والعقل - التي كانت تقتضي الابتعاد عن مشاهدة مثلا هذه المناظر، وبين الرغبة والغضب والانفعال الذي يسير في اتجاهات معارضة للعقل فتدفع صاحبها إلي مثل هذا الموقف. هكذا نكتشف أن الإحساس بالغرابة _ والرغبة فيها -تلازمنا حتي في أدق تفاصيل حياتنا، وإلا لما كان هناك جنس سينمائي تجاري مثلاً يطلق عليه "أفلام الرعب". استعادت سينما القرن العشرين، كما يشرح لنا عبد الحميد، المفاهيم القوطية القديمة لتقدم أفلام رعب تم تصنيها بوصفها فناً غرائبياً ينتمي لما بعد الحداثة، يهتم أكثر ما يهتم بالجسد الإنساني. في هذا الإطار يفسر لنا الكاتب ظهور أفلام الزومبي، حيث الموتي الأحياء الذين لا يقدرون علي الموت ولا يستطيعون الحياة، ويظلون دوماً في هذه المنطقة التي تقع ما بين الحياة والموت، والحضور والغياب. هذه الأفلام لا تعبر فقط عن الخوف من الموت، بل من الحياة أيضاً، التي لم تكن كما نريدها ونحلم بها. وإذا كانت هناك مادة أكثر من خصبة في الأعمال الفنية الأوروبية بالقرون السابقة تخدم هذا الموضوع، مثلا الجروتسك والفن القوطي وقصص الأشباح، فإن ما استلزم من الكاتب جهداً خاصاً هو تحليل علاقة الغرابة بالتكنولوجيا المعاصرة. يبدأ الفصل المعنون ب"الغرابة التكنولوجية" باقتباس من تيري كاسل يقول: "كل شيء إليكتروني له جانبه الغريب، وهذا صحيح في أجهزة مثل: التليفونات وكاميرات التصوير والتليفزيون والحواسب الشخصية... وغيرها، فعندما يستطيع أي شيء غير إنساني أن يتحرك تلقائياً، أن يتكلم ويتحرك ويستجيب للحركة ويجيب علي الأسئلة ويشير إلينا ويصور أجسادنا، فإننا نواجه نوعا من المتاهة المعرفية والحيرة." يحلل الكاتب في هذا الفصل ألعاب الكمبيوتر والتي تزايدت فيها العناصر الغرائبية حتي أصبحت الأماكن الفنية التكنولوجية زاخرة بسفن الفضاء والكواكب التي تتصادم والوحوش التي تقتحم والأبطال الذين يجترحون المعجزات والتشكيلات الغريبة للبشر والطيور والحيوانات والنباتات وما يتشكل من كل ذلك معاً. المكان أيضا يحظي بجزء مهم من الكتاب، وبالتحديد العمارة. هكذا يمكن له أن يربط فكرة الغرابة، التي تبدو ذات منحي ذهني مجرد، بظاهرة راهنة وملموسة، وهي "التحضر العشوائي"، بتعبير جليلة القاضي، حيث تصف القاضي العشوائيات بأنها "نمط من التجمعات السكانية الهائلة نشأت حول المدن في أراض غير معدة سلفاً وتأوي الملايين من السكان ولكن بشكل غير لائق وغير صحي... مما يجعل تلك المناطق وبحق "تابوتاً للنفس" محبطة للسكان ومحركة لنقمتهم وغضبهم وعاملاً أساسياً يدفعهم للهروب من واقعهم إلي ماض سحيق أو إلي نموذج ميثولوجي مثالي في عالم آخر". في الفصل الذي يتحدث عن المكان يحكي الكاتب أيضاً حكاية عن فرويد الذي تاه في إحدي المدن الإيطالية وتكرر ذهابه من أحد الشوارع وإيابه إليه مرة بعد الأخري، وكان حضوره إليه قد أثار انتباه الناس، وقد وصف فرويد شعوره أثناء تلك الخبرة بأنه غريب، وشبهه بشعور المرء بالتيه أو الضياع في غرفة مظلمة، يبحث بداخلها بلا جدوي عن باب أو مفتاح للنور ولكنه، مرة بعد أخري، يصطدم بقطع الأثاث، إنه هنا في متاهة من الوعي، متاهة يشعر خلالها بأنه بلا حول له ولا قوة." "الفن والغرابة" واحد من أجمل الأعمال الصادرة هذا العام، يدرس موضوعاً شائقاً بذهنية موسوعية تعودناها من الكاتب.