الحقيقة أن دراسة السينما والوقوف علي واقعها اليوم أصبح أمرا ملحا بعد ما نجم عن مشكلات غياب الوعي عند قطاعات عريضة من المجتمع لعقود طويلة. وبعد ما كشفت عنه حالة الحراك السياسي بعد 25 يناير عن ركام من الجمود والرجعية والضحالة الفكرية التي خلفها النظام السابق في مختلف شرائح المجتمع بطول البلاد وعرضها.. تلك القطاعات التي بدأت فصائل منها تسعي بجدية لفهم واقعها المحيط بعد أن كانت في حالة من الغفلة. وبعد مرحلة السعي للمعرفة وسط تخبط الاتجاهات والأفكار وتداخل المفاهيم أصبح علي السينما كأكثر الوسائط التعبيرية شعبية دور أكبر. لا أحفل كثيرا بتلك الآراء التي تتعامل مع فن السينما باعتباره وسيلة تربوية أو تثقيفية أو تعليمية. فمن المؤكد أن وسائل الإعلام والثقافة وليس الفن والإبداع هي الأقدر علي لعب مثل هذه الأدوار. وقد تساهم فنون أو وسائل أو وسائط أخري في تشكيل الوعي والذاكرة والثقافة. لكن ليس بنفس القدر ولا القدرة التي تلعبها السينما، خاصة في مجتمع تنتشر فيه الأمية والفقر، لتصبح الأفلام هي أقرب وأرخص وسائل الترفيه المتاحة. النصر للثورة يتنامي دور السينما وتتزايد أهميتها وقيمتها في مراحل تاريخية فارقة. ويصبح استلهام حكاياتها وشخصياتها أمرا مهما في البحث عن سبل وحلول وخاصة مع مجتمع يتراجع فيه دور وانتشار الكتاب بل والجريدة. وتتراجع فيه سبل اتصال الفرد بالعالم الحديث حتي ولو استخدم وسائله، بفعل انغلاق قطاعات عريضة منه علي خطاب ديني قديم قد لا يلبي طموحه غالبا ولا يوجد إجابات علي تساؤلاته الحديثة والمستحدثة. قد تلعب السينما أو فن الفيلم عموما بمختلف أنواعه دورا في هذا ولكن يظل الفيلم الروائي خصوصا هو الأكثر انتشارا وصاحب الغلبة مهما كانت مستويات أو قيمة الفكر الذي يطرحه. وسوف تظل الأفلام التي تنتصر للمستقبل وللحرية وللقيم النبيلة بأسلوب فني راق هي الأقرب لوجدان المشاهد والأكثر صمودا أمام الزمن بينما تتواري وتندثر الأفكار الرجعية والانهزامية. ويستمر تيار السينما الجريئة والتقدمية ليصب في مجري نهر المجتمع الثوري الساعي لتحقيق أهدافه الأساسية التي لا يتخلي عنها أي إنسان حر وهي عيش - حرية - كرامة إنسانية - عدالة اجتماعية. السلام الكاذب وقد أدلت السينما بدلوها في مختلف قضايانا الوطنية والقومية الملحة.. ربما علا صوتها أحيانا أو خفت في أحيان أخري. ربما تعثر خطابها وشابته الركاكة غالبا واتصف بالبلاغة والاستنارة نادرا ولكنه كان متواجدا ولو في نسبة ضئيلة من إنتاجها. فكما شهد عام 1979 مثلا الحدث السياسي الخطير بتوقيع معاهدة السلام، شهد أيضا أحداثا سينمائية مهمة ومؤثرة. كان من أهمها بداية توجه مخرجنا الكبير يوسف شاهين نحو سرد سيرته الذاتية برائعته (إسكندرية ليه ) التي ظهرت علي شاشات السينما في 23 / 8 / 1979 - بعد مرور أقل من خمسة شهور علي توقيع معاهدة السلام - والتي سوف تكون بداية سلسلة من الأعمال عن مسيرة حياته، لا تعكس انكفاء فناننا الكبير علي ذاته بقدر ما تعبر عن اهتمامه بتصوير الأجواء المحيطة بحياته. ومن داخل فيلم (إسكندرية ليه) في أربعينات القرن الماضي نطل ولأول مرة علي صورة لليهودي المصري مختلفة تماما عن نمط البخيل المستغل الخائن التي رسختها السينما المصرية في أدوار سينمائية عديدة. سنري يوسف وهبي في دور اليهودي المصري الذي يذوب عشقا في حب وطنه ويودعه مجبرا في كلمات أقرب إلي مقاطع الشعر. يأتي الفيلم متزامنا مع المعاهدة ولكنه يتسق تماما مع فكر المخرج وتوجهاته الداعية للتعايش مع الآخر والتسامح إلي حد التفريط والذي عبر عنه بوضوح أكثر في فيلمه السابق (وداعا بونابرت) والذي يكاد يجعلنا نبكي ندما علي ما اقترفناه ضد الحملة الفرنسية لأننا قمنا بالثورة علي الغزاة وطردهم مع أنهم أهلوا علينا بمشاعل العلم والحضارة. وكان يكفي فقط أن نردد في وجههم هتاف البطل الشاعر الساذج " مصر حتفضل غالية عليا". هناك العديد من الأعمال التي توالت لتعبر بشكل واضح عن رفض التصالح مع العدو سواء من خلال إحياء ذكري الشهداء أو تمجيد العمليات العسكرية التي قام بها أبناؤنا ضد العدو منها (يوم الكرامة )2004 أو التأريخ لاغتصابه أرض فلسطين في (باب الشمس) 2005 أو التعاطف مع المقاومة الفلسطينية في (أصحاب ولا بيزنس ) و(بركان الغضب ) وغيرها .. ولكن الفيلم الذي عبر بوضوح عن الرفض الشعبي للوجود الرسمي لإسرائيل في مصر هو الهزلي الساخر( السفارة في العمارة ) والذي تجلي خطابه عبر العديد من المشاهد والمواقف لكافة الشخصيات بدءا من رجال الدين واليساريين بل وحتي رجال المرور باستثناء طائفة منبوذة من المنتفعين. وفي واقع الأمر لقد اختفت غالبا عن السينما الأصوات الخافتة لدعاة السلام مع اليهود لتتصاعد بقوة عبر ثلاثين عاما الأصوات المعارضة والرافضة لكل أشكال التصالح والتطبيع والداعية لمقاطعة هذا الكيان الذي ما زال يغتصب أراض عربية ويمارس أقصي أساليب العنف مع أشقائنا. ولا شك أن السينما المصرية بحسها التجاري الغالب وسعيها لاستقطاب الجماهير لعبت علي الوتر المضمون واستثمرت الاتجاه الشعبي الرافض للمعاهدة وعبرت بقدر استطاعتها في حدود الممكن رقابيا عما يلبي رغبات جماهيرها وينفس عن غضبهم المشتعل. أكتوبر المسروق من القضايا التي تلام السينما المصرية كثيرا عن تقصيرها تجاهها هي حرب أكتوبر. ففي كل عام ومع حلول ذكري نصر أكتوبر 1973 يتكرر السؤال : لماذا لم تقدم السينما فيلما يتناسب مع قيمة هذا الانتصار الكبير ؟ .. تمر السنوات ومازال السؤال هو السؤال. ومازالت الإجابات أيضا هي نفسها، تدور كلها حول إدانة الفيلم المصري والمنتج والسيناريست والمخرج والنجم. وكلهم بلا شك شركاء بدور كبير في تدهور مستوي الصناعة بلا شك. ولكن بالنسبة لحرب أكتوبر علي وجه التحديد ربما تبدو المسألة أكبر من إدانة أفراد أو صناعة بأكملها، حتي ولو كانت هذه العناصر تلعب دورا في هذا التقصير. فالأحداث السياسية الكبري والفرحة الوطنية العارمة إن لم يصاحبها تعبير فني بليغ في حينها فإنه قد يأتي بعد أعوام من استيعاب الحدث وقيمته. ولكن هذا الغياب الكامل لنصر أكتوبر علي الشاشة لا يعني سوي مشكلة في منظومة كاملة وفي رؤية شعبية ضبابية ورسمية متخبطة وفي تضارب وارتباك في فهم واستيعاب الحدث. بل وفي حالة عامة من الإصرار علي التجاهل لأسباب سوف نبحث فيها معا قد تخرج عن نطاق الفن. ولكن من قال إن الفن ينعزل عن مكونات كثيرة اجتماعية واقتصادية وعسكرية وسياسية. إن السبب الحقيقي الذي جعل إمكانية صناعة فيلم يعبر عن هذا النصر أمرا مستحيلا هو أن حرب أكتوبر وغيرها من الحروب كانت الغاية القريبة منها هي استعادة الأرض ولكن الغاية البعيدة لكل حروبنا هي الحرية. فهل استطاع سياسيونا أن يجعلوا نصر أكتوبر ورقة رابحة في مفاوضاتهم من أجل الحرية. الحقيقة أن حريتنا ظلت تتضاءل وتبعيتنا للإمبريالية الأمريكية تتزايد. فقدت مصر حريتها بعد أن استسلمت تماما لأمريكا ومساعداتها ولصندوق النقد وشروطه. وفقد المواطن المصري حريته وكرامته أمام حكومات متواصلة من الخاضعين لأوامر الأمريكان. وهكذا كانت المسافة بين المواطن وشعوره بنصر أكتوبر يتضاءل، ولم يكن بإمكان الاستعراضات السنوية في ذكراه بحضور المخلوع وزبانيته سوي وصلات من المدح الكاذب والنفاق المكشوف لشخصه الكريه الذي احتكر نصر أكتوبر لنفسه. فزاد الحاجز النفسي بين المواطن ونصره الذي حققه ولم يعد شريكا به. بل كانت السياسات التي أعقبته سبيلا للنظام في مزيد من القمع للمواطن الذي فقد حريته والتي لم يكن النصر سوي سبيل لها. المشهد الانتخابي تنشغل السينما المصرية إلي حد مقبول بالمشهد السياسي، بصرف النظر عن مستوي عمق الرؤية أو جدية الطرح أو حتي دوافع الاستغلال. فكثيرا ما تكون السياسة أحد التوابل أو المشهيات الجاذبة للجمهور في السينما والإعلام أيضا. ولا شك أن مدي الجدية في التناول والطرح قد تصل إلي أدني مستوياتها ليس فقط في أفلام المقاولات ولكن في أفلام كبري للنجوم السوبر حين تنحصر أهدافها في المتاجرة والادعاء ورفع أسهم النجم. وقد يغلب علي البعد السياسي طابع الترميز أو التلميح مثل رائعة شاهين عودة الإبن الضال أو يصل التصريح إلي مداه كما لم نر من قبل كما حدث مع «حين ميسرة» لخالد يوسف. و يصل الطرح السياسي إلي أرقي مستويات الواقعية في العديد من أفلام الراحل عاطف الطيب مثلا. وقد تتسم الرؤية بكثير من العمق والرقي الفكري في كثير من أعمال داود عبد السيد. وفي ظل الظروف التي تمر بها البلاد بعد قيام ثورة، يري البعض أن السينما تراجعت ويراها البعض انتكست أو وأدت إلا أنها وبالتأكيد صنعت شيئا في روح العباد وتطلبت خطابا جديدا. وهي بالتأكيد ولا شك ساهمت بدور أو بآخر في تحقيق هذه الثورة الموءودة إلي حين من خلال أفلام عبرت عن قضايا الوطن وهمومه وفساد حكامه. ولكن دورها الآن يتزايد أهمية وأصبح خطابها أكثر خطورة وتأثيرا، بصرف النظر عما يظهر بها من أعمال تجارية استهلاكية سيطويها النسيان ربما قبل أن تتواجد في دور العرض أو تحقق عرضها الأول في القنوات التليفزيونية. والحقيقة أيضا أن حدود تأثير الفيلم المصري تمتد بطول الأقليم الذي انفجرت في مختلف أنحائه ثورات الربيع العربي والذي تعد السينما المصرية اللغة الثانية المشتركة بين شعوبه بعد اللغة العربية. وإذا كانت السينما في عمومها تخاطب جمهورا من الشباب بالدرجة الأولي، فإن خطاب الفيلم المصري أصبح موجها إلي شباب شعوب ثائرة وساعية لتحقيق حرياتها وتلمس تجارب حضارية وديمقراطية علي النمط الغربي في الغالب. وإن كان هناك تيار إسلامي قوي يتلمس مرجعية دينية، إلا أن هذا القطاع في الغالب لا يحفل بالسينما بالقدر المعتاد عند قطاعات أخري. وهكذا فإن الجانب الثقافي من السينما أصبح يخاطب جمهورا علي درجة متقدمة من الوعي. وبذلك أصبح علي فنانيها أن يبذلوا جهدا مضاعفا.