تكتسب رواية «أجنحة الفراشة» للكاتب الكبير محمد سلماوي أهميتها في السياق الروائي من أنها تنبأت بالثورة في آلياتها المتعددة التي مرّت بها، حيث تطابقت المواقف الروائية في ارتباطها العضوي مع شخصيات الرواية والواقع الثوري الذي لمسناه أثناء ثورة 25 يناير وما بعدها، وبدا العمل الروائي كأنه تنبؤ لسيناريو قد حدث بالفعل، مما يعني أن الكاتب كان واعيا بما يعتمل في جوانب الوطن من متغيرات في الرؤية والتوجه السياسي. لقد وضع يده علي بؤرة الفعل الساخنة وفضح التزييف والاستبداد والقمع وكانت المظاهرات والاعتصامات - فيما قبل الثورة- إيذانا بمرحلة جديدة أسفرت في النهاية عن ثورة سلمية تُعلي من قيم العدل والحرية والكرامة. لقد تكاملت الذات والتأم انشطارها وخرجت - ضحي- بطلة الرواية من شرنقتها ورفرفت بجناحيها مثلما خرج الوطن من سجنه.. وحلقا معاً في سماء الحرية. والرواية تستشرف الأمل نحو القبض علي الذات الإنسانية في سعيها نحو الاكتمال والتحقق، والكشف عن الجانب المعتم وإضاءته سعيا إلي الالتئام وجبر الذات المنشطرة، ومن ثم جاء البناء الروائي علي محورين متوازيين لا يجتمعان حتي ليبدو أنه من الممكن أن ينفردا ليصبح كلاهما عملاً أدبياً مستقلاً. فالمحور الأول لا يتداخل مع المحور الثاني ولا يتوقف في مواقفه علي أحداث الآخر أو شخصياته، ومع ذلك فثمة دلالة رمزية تجمعهما بحكم المكان الذي يتسع لهما ويضمهما تحت جناحه إنه الوطن الذي به يتحقق للذات وجودها وهويتها. الخلاص من الواقع الجهم مارست الشخصيات في الرواية فعل الحرية وسعت إلي الخلاص من الواقع الجهم واقتحمت في شجاعة الحدود الفاصلة بين الأنا والآخر، وراحت - حسب مكوناتها الاجتماعية والثقافية - تتمرد علي النظام القائم وتتوق إلي الحرية خروجاً من الأزمة النفسية إلي التصالح والاكتمال. تبدأ رواية «أجنحة الفراشة» و«ضحي الكناني» تنطلق في طريقها إلي المطار في رحلة إلي إيطاليا للاشتراك في عرض موسمي للأزياء واعتبرت رحلتها بمثابة نقلة مهمة في حياتها كمصممة للأزياء، ورغم شهرتها في مجالها الفني إلا أنها كانت تشعر بفراغ أصابها بالإحباط، ستقوم بعرض فني لأحدث التصميمات التي نفذتها في معرض يقام في ميلانو، فلعل هذه الخطوة تكون نقطة للتحول والاهتداء إلي النغمة الصحيحة، في الطائرة أفاقت علي رائحة «عرق ذكوري تخترق كيانها» ووشت اللغة بما اعتمل داخلها من سلوك أنثوي فتعطرت بعطرها الخاص «وخرجت من أحضان الرجل». كان صاحب العرق الذكوري هو الدكتور أشرف الزيني المعارض السياسي المعروف وكان متجهاً إلي إيطاليا لحضور مؤتمر تقيمه المنظمات المدنية.. واعتبر لقاءه ب«ضحي» مصادفة غريبة، فهي زوجة أحد أهم أركان الحزب الوطني، ورأته بعين راصدة رجلاً «له وجه طفولي بريء رغم كثافة لحيته»، ودار الحوار بينهما حول السياسة وتداول السلطة وتزوير الانتخابات الأخيرة، وأكد لها أن «ما ينقصنا في هذا البلد هو ثقافة الاختلاف». وأدركت أنه أحيا في نفسها ما كان مهملاً.. وضحي الكناني تعلمت في مدارس الراهبات واعتبرت الجامعة فرصة للانعتاق من صرامة الأم وأوامرها النافذة، ورغم اعتراضها علي الزواج إلا أنها رضخت للأم وتزوجت مدحت الصفتي، رجل الحزب الكبير وعملت بالأزياء، وذاع صيتها، كانت حياتها الزوجية باردة فشلت علاقتها الزوجية الحميمة مع الزوج، فساد بينهما «صمت جنسي سميك كالجدار» وكم تمنت وهي منكفئة علي نفسها أن تخرج من الشرنقة وأن يكون لها في يوم ما أجنحة كالفراشات فتخرج من الشرنقة وتحلق في السماء. ولقد حرصت الرواية علي الربط بين ضحي والفراشة بما يوحي بالبحث عن الأمل واكتمال الحياة فإذا كانت الفراشة هي التحول الطبيعي للدودة المحبوسة في الشرنقة، فإن الفراشة بالنسبة لضحي «رمز لميلاد حياة جديدة» وانعتاق من سجن كالشرنقة. اشترت من إحدي المكتبات كتابا بعنوان «فراشات مصر» وتوقفت أمام فراشة النمر ذات الجسد الأسود الداكن بنقاطه البيضاء ورأت أنها ستكون مصدراً لتصميمات تفوق في جمالها الفراشة الأجنبية، وشعرت لحظتها بأنها تبدأ التحول وأن تصميماتها «تفتقد إلي الهوية المصرية» وأحست بتشابه بينهما، وأنها تحتاج جناحين مثل جناحيها تطير بهما، ومن ثم اتخدت قرارها الصعب «لن تظل دودة حبيسة داخل شرنقة». وحين قررت ألا تعرض تصميماتها التي لا تلبي احتياجاتها شعرت بأنه «نما لها جناحان» وباح التعبير اللغوي بالتحول النفسي وبالانعتاق من السجن الذي يكبلها، وبالخروج إلي الحياة. شعرت بالبهجة والخفة والسمو والانطلاق. «أدركت أن الفراشة بلا أجنحة مجرد حشرة مثل بقية الحشرات، لكن الجناحين يرفعانها إلي مرتبة أخري ويتوجانها أجمل المخلوقات وأكثرها سحراً» وتساءلت في حدس نفسي حميم أتكون هي تلك الفراشة- الان- في هذه الحياة! في أثناد الرحلة اقتربت ضحي من الدكتور أشرف والتقيا أكثر من مرة لاحظ الحزن الذي يسكن عينيها وشعر بالألفة معها، وشغله فيها استدارة الجسد، وبريق العينين والشفتين المكتنزتين والأنف الدقيق، وأحست تجاهه وهو يصافحها «بالصدق ينساب من يده الدافئة إلي أناملها» وتغيرت نظرتها إلي محترفي السياسة ورأت في أشرف رجلا محبا لوطنه، وفاضت مشاعرها بتساؤلات تكشف عن الأزمة النفسية والحسية التي تعيشها تساؤلات تمنت لو باحت بها للدكتور أشرف. هل تصارحه بأن زواجها بمدحت الصفتي زواج صوري؟ هل تقول له إنها في الحقيقة عانس لم تتزوج أو أنها أرملة أو مطلقة؟ هل تحكي له عن المشكلة الزوجية التي تحول بين إقامة علاقة سوية بينها وبين زوجها؟.. ألا يتطلب الإصلاح الاجتماعي والدفاع عن حقوق المرأة أن يكون الزوج معافي بمثل ما يطالب الرجل أن تكون الزوجة عذراء؟.. إلخ» كان قربها من الدكتور أشرف واحترامها لشخصيته وتقديرها لفكرة وجهاده وراء قرارها الذي اتخذته حين طلبت الطلاق بعد عودتها من السفر وشعرت بأنها شخص آخر تستطيع أن تفعل ما تريد، شاركت في مظاهرة أمام دار القضاء العالي ونادت بتعديل الدستور وشعرت بالقوة، وبأنها «محمولة علي الأعناق كأنها فراشة تطير في الهواء» وراحت تردد «موش حنخاف موش حنطاطي..» وأدركت أنها جزء من مخاض هائل تمر به البلاد.. واقتحمت سيارات الأمن المكان وانقض الجنود علي المتظاهرين وألقوا القبض علي الدكتور أشرف. وكان وهو في سجنه يري أنه وجد كنزاً ثميناً لم يكن يتخيله، وأن علاقته بضحي جاءت رهن ظروف سفر طارئة، وشعر بصدقها الوطني وأنه قبض عليه حين دافع عنها أمام ضابط الأمن.. وشعرت ضحي به يزاحمها في فراشها وتقتحمها رائحته الذكورية «وقررت أنها لن تكون إلا لأشرف الزيني وقرر هو أنه سيخوض كل المعارك من أجل الفوز بضحي الكناني التي اغتصبت منه كما اغتصبت البلاد من أصحابها». وفاض فنها، وانطلقت ترسم «وكانت فراشة النمر المصرية هي مصدر إلهامها بألوانها الجميلة، وشاركت في مظاهرة مجلس الشعب، وأدانت الحزب الحاكم وسياسته في حديث صحفي.. وقبض عليها.. أدركت أثناء وجودها في المقر الأمني أن كثيراً اختفوا، وأن الخوف من المجهول يترصدها، وأصوات التعذيب وصرخات الاستغاثة تخترق القبو الواقع تحت الأرض». وتطورت الأحداث.. طالب الدكتور أشرف الشعب بالعصيان المدني وأصيبت الحياة بالشلل واعتبر النظام أن هناك مؤامرة لقلب نظام الحكم وعمت المظاهرات القاهرة والإسكندرية وغيرهما وصدرت قرارات بحظر التجول ورفض وزير الدفاع إنزال الجيش، فالجيش «وجد للدفاع عن الوطن ضد الغزاة.. وليس لضرب المصريين». وسقط النظام وتم الإفراج عن ضحي والدكتور أشرف الذي رأس الائتلاف الثوري وأعلن عن دستور جديد للبلاد. وتم طلاق ضحي وشعرت بحريتها وأحست «لأول مرة بأنها حرة تحررت من سجن النساء الذي نقلت إليه بالقناطر الخيرية وتحررت في الوقت ذاته من السجن الذي عاشت فيه طوال عمرها وحتي قبل أن تعرف مدحت أو تتزوجه». وفي دلالة موحية يشي التعبير اللغوي بالتواصل الرمزي بين ضحي والوطن، وتتلاقي الذات المفردة مع العام المحتوي ليصنعا معاً كلاً متكاملا.. يقول د. أشرف «أكان يجب أن تتحرر البلاد كلها حتي يتم تحريرك». استقبال حياة جديدة تهيأت الشخصية في «أجنحة الفراشة» للكاتب الروائي محمد سلماوي لاستقبال حياة جديدة، وكان الأمل في التحقق الوجودي هو الملاذ وواكب التعبير حالة الذات في قلقها، ومغامرتها واستباقها واقتناص حريتها، واستحققت «ضحي» - بذلك- أن تحمل دلالة الرمز للوطن واستطاع السرد أن يرسم الصورة داخلياً وخارجياً، وتبدت خبيئة المرأة في هواجس ملتبسة وصراع نفسي مابين المسموح والممنوع. ونابت الصورة المجازية عن الحديث الذي يمكن أن يقال أو تبوح به الشخصية كان الاحتياج يداهمها والرغبة في الارتواء تشغلها وتصنع مأساتها تحولت الأشياء إلي أوضاع متخيلة ومرغوبة، فها هي تقلب صفحات كتاب «فراشات مصر» وهي في سريرها تنتظر خلسة من النوم تنقذها من شجنها، وضعته علي صدرها.. «واحتضنته كأنه راجل راقد فوق جسدها». اقترب التداعي من المونولج المثبوت عبر الحوار في انقطاعه أو تواصله ويصنع مع السرد سبيكة متماسكة.. حين أخبرها د. أشرف أن لكل فراشة تأثيرا في الأرصاد مهما كان حجمها وشي الحوار بينهما بدلالة الحركة السياسية وتأثيرها. «قال: إن نظرية تأثير الفراشة، تثبت أن كل كائن حي مهما بدا صغيراً بإمكانه أن يؤثر في الكون، قالت: إنها نظرية عبقرية كيف اعتمدت عليها في كلمتك؟ قال: استخدمتها لأدلل بالبرهان العلمي علي أن الفرد الأعزل يستطيع أن يحرك الأعاصير.. وهذه هي قوة المجتمع المدني». وإذا كان الحوار يأتي في الرواية علي هيئة قال «قالت» في اندماج مع السرد فانه يأتي كثيراً موصفاً للحالة وراصداً لرد الفعل ومعقباً ومتداخلاً مع الرأي. حين اعتذرت عن عرضها للأزياء دار حوار بينهما وبين المسئول عن العرض كشف عن الدهشة والالتباس ووصف الهيئة «قالت له: لن أستطيع عرض أزيائي هذا العام، اتسعت حدقتا الرجل وهو يستمع إليها، قالت: الأزياء التي جاءت من مصر لا تلبي احتياجاتي ولا تعبر عني.. صدم الرجل وسقط فكه الأسفل وهو يقول: هل حدث خطأ في مصر؟ هل أرسلوا أزياء غير أزيائك؟ قالت: لا.. هي أزيائي، قال: ألا يمكن أن نصلح الأمر، قالت: لا عليك.. إلخ». واكتسب الحوار فنيته من التلاؤم بين القول والشخصية وهو تلاؤم قائم علي الانتقاء، لأن ما تتلفظ به الشخصية واقعي ليس ضرورياً في مجال الفن.