من جديد يبرهن الأدب علي أنه مرآة المجتمع، ويقدم تنبؤاته الخاصة بالمستقبل، بل ويرسم خارطة بكامل تضاريسها تحكي عن تفاصيل ما سيحدث بالضبط.. نظرة الأديب التي يشيع البعض أنها رومانسية أكثر من اللازم ووردية إلي حد يضعها في كفة واحدة مع أحلام اليقظة تحولت من خلال رواية محمد سلماوي "أجنحة الفراشة" إلي واقع فعلي وكأن الكاتب اطلع علي سيناريو ما حدث لمصر من تغيرات جذرية فنقله علي الورق ليقدمه إلي القارئ. "أجنحة الفراشات" التي صدرت منذ عدة شهور عن الدار المصرية اللبنانية تحدثت عن كافة جوانب الأزمة والمظاهرات التي اتسعت رقعتها وهي تطوف بالبلاد لتنتهي في أيامها الأخيرة بالعصيان المدني فيتم تقويض الحزب الواحد الذي حكم مصر أكثر من ثلاثين عاما وتفككه فيصبح ماضيا لا يمكن العودة إليه بأي حال من الأحوال. حدد رئيس اتحاد الكتاب في روايته سببين لنجاح مهمة التظاهرات في الوصول إلي أهدافها: الهواتف المحمولة وفيس بوك كما كان أكثر فهما في نظرته للنظام وهو يتوقع منه إلقاء التهمة علي مؤامرات مدعومة من الخارج لقلب نظام الحكم وهو ما حدث بالضبط حتي أن خطاب الرئيس السابق محمد حسني مبارك تحدث عن هذه الجهات الخارجية التي تحرك إرادة الشباب. كشف سلماوي خلال الرواية عن خطة الحكومة لاعتقالات مجموعة الشباب ممن وصفهم بوقود العصيان المدني، ويمضي سيناريو الرواية إلي تخيل امتناع معظم الموظفين للذهاب إلي أعمالهم، وكذلك يغلق التجار أبواب محالهم، وتضطر الحكومة للاستقالة، فتبرز هيئة وطنية تعد لانتخابات حرة علي مستوي البلاد. إلا أن الحكومة المصرية لم يكن لديها الفرصة لتعتقل أقطاب المعارضة، والمتعاملين معهم، كما جاء في الرواية. وتحكي الرواية عن "ضحي" زوجة العضو القيادي في الحزب الحاكم التي يتصادف وجودها بجانب قطب المعارضة الأول د.أشرف الزيني وكلاهما يجاور الآخر في الطائرة المتجهة إلي روما. وتجيب الرواية عن عدة تساؤلات، هي ماذا يحدث حين يكتشف الشاب أيمن أن والدته التي قيل له إنها توفيت في طفولته لا تزال حية ترزق ولا يعرف لها عنوانا؟، وماذا يحدث حين تتبدد أحلام شقيقه عبد الصمد عندما يجد أن الشيخة الكويتية التي وعدته بالزواج والسفر إلي الكويت ما هي إلا عصابة للنصب علي الشباب الحالمين بالمستقبل؟، وماذا يحدث حين يسقط الحزب الذي دام حكمه المستبد أكثر من ثلاثين عامًا علي أثر سلسلة من المظاهرات والاعتصامات تصل إلي حد العصيان المدني؟، هل يمكن أن تلتقي هذه الأحداث وتتشابك مع مصائر شخصياتها في حبكة روائية واحدة تحدد معالم مستقبل مجتمع بأسره؟. يقتحم سلماوي في "أجنحة الفراشة" عوالم جديدة لم تتعرض لها الرواية المصرية من قبل، سواء علي المستوي السياسي الذي شهدته البلاد في الماضي القريب، ويتوازي مع العلاقة الزوجية غير السوية لبطلة الرواية مصممة الأزياء الباحثة عن نفسها "ضحي الكناني"، و يقدم لنا مجموعة من الشخصيات التي تسير في خطوط متوازية يربط بينها أنهم جميعًا يبحثون عن تحقيق ذواتهم، وذلك في فترة تاريخية حرجة تشهد حراكًا سياسيًا غير مسبوق لبلدٍ يبحث هو الآخر عن نفسه. تتمحور أحداث الرواية في ثنائيات متوازية، فنجد من ناحية ضحي والدكتور أشرف والعلاقة الفكرية والعاطفية التي تنمو بينهما فتحدد مسار حياة كل منهما، كما نجد من ناحية أخري أيمن وشقيقه عبد الصمد ومحاولة كل منهما البحث عن مستقبله. وعلي هذا التوازي نفسه في شخصيات الرواية نجد هناك توازيًا آخر ما بين الشخصيات في بحثها عن نفسها وبين البلد الذي يمر هو الآخر بمرحلة البحث عن الذات، فتتشكل الحركات السياسية المطالبة بالتغيير وتنتشر المظاهرات في كل مكان، وحين يصل الوطن إلي الخلاص أخيرًا من حكم الحزب الفاسد والمتسلط يكون أيمن قد عثر علي أمه التي كان يبحث عنها، وتكون ضحي قد تخلصت من زواجها الفاشل الذي فرض عليها رغمًا عنها فتحولت علي حد قولها من يرقة رخوة لا حول لها ولا قوة إلي فراشة جميلة نما لها جناحان فصارت قادرة الآن هي والوطن علي التحليق في السماء. وكأن "أجنحة الفراشة" هي رحلة خلاص مجتمع بأكمله من القيود التي تكبله وتحول دون تحقيق أبنائه لذواتهم، ولذلك فلم يكن غريبا أن تبدأ قصة كل من الشخصيتين الرئيسيتين للرواية بالسفر، فضحي تركب الطائرة إلي روما للمشاركة في العرض السنوي لأزياء الربيع، في الوقت الذي يتجه فيه أيمن إلي موقف أحمد حلمي قاصدًا طنطا للبحث عن أمه، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تعترض رحلة كل منهما قوات الشرطة وسيارات الأمن المركزي التي تسد الشوارع وتقف للمتظاهرين بالمرصاد.