ما إن يهل هلال رمضان .. وتبدأ الصحف والدعايات تتوالي عن المسلسلات التي ستعرض علي الشاشات الأرضية والهوائية .. حتي تباغتني الأسئلة من كل جانب: ما الذي تنصحنا برؤيته ضمن هذا الكم الكبير من الأعمال الفنية المعروضة .. سواء من مصر أو من البلاد العربية .. إن طاقتنا العقلية والعاطفية لا تحتمل رؤية أكثر من خمسة أو ستة مسلسلات .. فما علينا أن نختار ضمن الثلاثين أو الأربعين مسلسلا التي تقدمها لنا الشاشات العربية (ونحمد الله علي أننا لا نواجه سيل العام الفائت الذي وصلت فيه أعداد المسلسلات المعروضة علي الجمهور إلي الستين أو السبعين مسلسلا) هذا إذا وضعنا جانبا أيضا البرامج الفكاهية والمسابقات التي تقدم جوائز يسيل لها اللعاب.. ( وإن كان بعضها وهميا ذا وهج زائف) وبرامج فضائحية وأخري سياسية تحاول ركوب الموجة أو السير ضدها.. كل ذلك في آن واحد وفي وقت واحد والزمن قليل والساعات معدودة والبرامج والمسلسلات والأفلام في ازدياد واضح، فما العمل؟ رغبة حقيقة والحق هذه التساؤلات جاءت في محلها.. وتعكس رغبة حقيقية من المتفرجين في الاعتماد علي أذواق النقاد لإرشادهم السبيل الصحيح إلي رؤية ما يجب رؤيته رغم ايماني العميق بأن الأذواق لا يمكن أن تتوافق جميعا علي رأي واحد وأن ما يعجب النقاد قد لا يعجب الجمهور والعكس صحيح .. ولكن وظيفة الناقد كانت منذ البداية أن يعلن رأيه مهما كانت نوعية هذا الرأي وسواء تواكبت وجهة نظره مع وجهة نظر الجماهير الكبيرة أو اختلفت. وهنا تكمن المسئولية الحقيقية للناقد .. أن يحاول المحافظة علي اتزانه الفني ورؤيته الصادقة .. بغض النظر عن جماهيرية نجم ما أو موضوع خاص وأن يحاول أن يقول ما يعكس رؤيته الفنية دون أن يعاكس التيار أو يتعالي علي ما يرغب الجمهور في رؤيته.. فالجمهور آخر الأمر هو المقياس الحقيقي لنجاح أي مسلسل واستمرارية أي نجم، مهما كان رأي الناقد أو المحلل الفني. هدير الأمواج من ضمن هذا الخضم .. وقبل أن يبدأ هدير الأمواج.. وقبل أن يجرفنا التيار علينا أن نختار «السحل في الماء» تاركين لتوقعاتنا المجال الأكبر.. وفاتحين أمام أنفسنا أقواسا كثيرة للرفض أو القبول بعد أن نشاهد جزءا من الحلقات . أول هذه المسلسلات التي تثير الفضول والدهشة وهو بالطبع مسلسل «الحسن والحسين» الذي يخترق الدوائر الحمراء كلها .. ويفتح صفحة جديدة للتعبير الفني في القضايا الدينية المهمة التي مازالت تعتبر من المحظورات في نظر بعض الفقهاء كظهور شخصيات الصحابة وتجسيدها علي الشاشة، رغم اننا في زمن أحوج ما نحتاج إليه هو اظهار مثل هذه الشخصيات النقية النادرة لتكون ترسا منيعا نواجه به الهجمات الظالمة والطعنات الغادرة التي توجه للإسلام. «الحسن والحسين» هما مصدرا الفتنة الكبري في الإسلام، كما يصفها الدكتور طه حسين والتي اشتعلت بعد مقتل الإمام علي وتحول الدين الإسلامي الديمقراطي (وأمرهم شوري بينهم) إلي ملكية وراثية علي يد معاوية بن أبي سفيان. لا أدري التوجه الذي سيسير عليه المسلسل ولا الطريقة التي سيعالج بها الأمر وإلي أي ضفة سيتجه.. ولكن نقطة الارتكاز والأهمية هي أنه سيفتح المجال لمناقشة أهم حدث سياسي مر علي الإسلام في بداياته واستطاع أن يغير من مساره. حكم مكة الديمقراطي إلي حكم الأمويين الملكي وذلك في إطار دموي رهيب سالت فيه دماء المسلمين أنهارا وأطلق عليه عميد الأدب العربي صفة «الفتنة الكبري». دراسة متعمقة أما المسلسل الثاني الذي يثير فضولي وشغفي فهو مسلسل «رجل من هذا الزمان» الذي يروي مسيرة العالم المصري الكبير «د. مشرفة» كما ستقدمه لنا مخرجة ملتزمة موهوبة اعتادت أن تتحدي الصعاب وأن تقدم حتي الآن أعمالا فذة لاتدانيها أعمال أخري سواء حققتها عن شخصيات عامة كأم كلثوم مثلا أو دراميات عاطفية تعرف دائما كيف تشبك أحداثها وتقدمها بدقة فائقة وعذوبة فنية لا يجاريها فيها أحد مع تعمق في التفاصيل ودراسة معمقة للشخصيات كلها. عمل ثالث يثير الانتباه والفضول معا هو «الشوارع الخلفية» الذي كتبه عبد الرحمن الشرقاوي وتمثله ليلي علوي إلي جانب جمال سليمان، فبالإضافة إلي قوة القصة واسقاطاتها المعاصرة رغم أن أحداثها تدور في الأربعينات فإنها تقدم لنا نجمين كبيرين « في موسم رمضاني شحت فيه النجوم». ليلي علوي وجمال سليمان في عمل درامي مشوق أخرجه مخرجان شابان كما يلحق بعروض رمضان نجمان أعتقد أنهما سيعوضاننا عن الكثير من اشباه النجوم الذين اختفت اسماؤهم تماما خلال هذا الشهر الفضيل. هالات المجد «عابد كرمان» هو المسلسل الرابع الذي تسني لنا مشاهدته العام الماضي من خلال لجنة انتقاء برامج رمضان والتي كنت عضوا فيها المسلسل مأخوذ من ملفات المخابرات كتب له السيناريو بإبداع بشير الديك وأخرجه بعين فنان صادق نادر جلال ومثله بطبيعية أخاذة «تيم الحسن» إلي جانب مجموعة مختارة من النجوم.. وصورت أحداثه في كثير من المدن الأوروبية والعربية. مسلسل سيحقق لأصحابه نجاحا يستحقونه وسيمنح لكاتبه ومخرجه وممثله الأول هالات مجد يستحقونها بجدارة. شيء كثير من الفضول ينتابني ويدعوني لرؤية الحلقات الأولي عن مسلسل «الشحرورة» الذي يروي قصة حياة المطربة صباح وحياتها العاطفية والفنية المليئة بالأحداث والمفاجآت. لا أدري خط السير الذي سيعيش عليه المسلسل وهل سيكون صورة أخري مشوهة لمسلسل عبدالحليم وسعاد حسني وليلي مراد أم يحاول إعطاء صفة بطولية لصباح كما فعل مسلسل «أم كلثوم» لسيدة الغناء العربي أم يقدمها بحلوها ومرها كما فعل مع اسمهان. أعترف أن كثيرا من الفضول يجذبني لرؤية الحلقات الأولي من هذا المسلسل فضول مرده اعجابي العميق بمسيرة فنانة تمكنت من تحدي الزمن والمجتمع والتقاليد.. وأصبحت رمزا وأمثولة رغم سيرها عكس الاتجاه السائد والتقاليد الأخلاقية الصارمة. أرجو أن يكون المسلسل جديرا بهذه الفنانة التي عرفت كيف تكون وكيف تستمر وكيف تقاوم الزمن ببطولة فنية خارقة. قطرات صغيرة قد تبشر بقدوم مطر كريم أو قد تكون نفحات كاذبة تعيدنا إلي مرحلة اليأس التي لازمتنا كثيرا خلال المواسم الرمضانية الفائتة.. وكل عام وأنتم بخير.