تبدو - للوهلة الأولي- "رقصة العنكبوت" للكاتب المغربي مصطفي لغتيري رواية المكان بامتياز، فيخيل للقارئ أن السارد يحمل كاميرا، وهو يصف أزقة وشوارع الدارالبيضاء، مقاهيها وحدائقها العمومية، وبنفس الأسلوب المشهدي يرصد رحلته من البيضاء في اتجاه سيدي بوزيد، ولن نغالي إن اعتبرناها أول نوفيللا مغربية تحتفي بالمكان، بعيدًا عن الرؤية السياحية أو الفلكلورية، ولا غرو أن تحتفي "رقصة العنكبوت" بمفرداته- المكان-، لأن يوسف - الشخصية الرئيسة في الرواية- عاطل عن العمل، وعبر هذا "التسكع" السردي الآسر يحتفي مصطفي لغتيري بتفاصيل معيش يومىّ، موشي بتأملات شتي.. متوسلا سردًا خطىًّا، تكسر تراتبيته محكيات استرجاعية أو حلمية/كابوسية. كافكاوي عنوان الرواية مستوحي من الفصل الكابوسي/ الكافكاوي (الفصل العاشر)، فالعنكبوت التي يراها السارد في حلمه تتضخم فوق اللوحة، لم تكن سوي تعبير لا شعوري عن القلق الذي انتاب يوسف، حين حذرته هدي، ابنة السيد حسن، الرجل المحتال.. اللوحة مجرد كمين، والعنكبوت التي تنسج خيوطها هي السيد حسن، الذي يبيع التحف واللوحات المزيفة، وهو ما سيتضح في الفصل الأخير؛ الرسم وسيلة لإشباع نزواته كرجل مثلي... وهذا السيد كان يبرر تزويره للوحات الرسامين المشاهير بأن من يقتنون اللوحات لا يفقهون شيئا في الفن، ويقتنونها فقط لتزيين محلاتهم التجارية حتي تعطي إحساسًا بالفخامة للزبون : "هناك أصناف من الناس تدفع أكثر بسبب هذه المكيدة"'(ص 14). ويقبل يوسف هذا العمل، علي الرغم من رفض صديقته مني، التي خىّرته بين ترك العمل أو قطع صلته بها، ولم يقاوم الإغراء، لأن لا أحد يقبل شراء لوحاته الشخصية، ويفضّل استغلال موهبته.. بدل هذه الهواية التي لا يجني من ورائها أي ربح. مني تبدو مثالية وعنيدة مثل أبيها، لكن يوسف يبرر استسلامه بأن : "الجريمة هي أن أظل هكذا أتسكع في الأزقة دون عمل. إنني يومًا بعد يوم أدنو من حالة يصعب العودة منها" (ص20-21). وفي ظل وضع متأزم كهذا، سنتعرف علي أصدقاء يوسف، الحالمين بفردوس الضفة الأخري.. عن طريق الهجرة السرية، وكان يوسف يعارض فكرة الهجرة غير الشرعية، لأنها محفوفة بالمخاطر، وأيضًا استهجانًا لأعمال يرفضونها في الوطن، ويقبلون عليها هناك، كالعمل في الحقول. ويركز مصطفي لغتيري علي انهزامية الشباب وسلبيتهم السياسية، وهروبهم من الواقع بالسكر، وهنا سندرك لِمَ أفرد لغتيري مقطعا سردىًّا مطولا لوالد مني، الذي دفعه حلمه بالعدالة الاجتماعية إلي المشاركة في إضراب 1981م، ففصل ثلاث سنوات من الوظيفة، وعاني من الحاجة والمهانة.. لكن، هل كل الشباب مثل أصدقاء يوسف؟ كلا، ففي روايته "ليلة إفريقية" فتية يحلمون بحياة كريمة في وطنهم، دون أن يفكروا في الضفة الأخري.. بيد أن قوات الأمن تغتال إنسانيتهم أمام مبني البرلمان. الهوية ومرة أخري، يبرع مصطفي في لعبة المرايا المتقابلة، في مقاربته لسؤال الهوية، الذي سبق أن تطرق إليه في روايته السابقة "ليلة إفريقية"؛ لكن في هذه الرواية يتناوله من وجهة نظر أخري، ويلفت انتباهنا ولع الكاتب بأسماء الأنبياء، حيث اختار اسم (يوسف) لبطل رواية "رقصة العنكبوت"، و (يحيي) في "ليلة إفريقية"، لكن نميل إلي أنه اختار هذين الاسمين لكونهما من الأسماء المتداولة في المجتمعات العربية المسلمة، بعيدًا عن أي تفسيرات دينية، متعصبة.. ويتطرق الروائي إلي الاستلاب من خلال سماع يوسف أغنية بوب مارلي، الطاعن في إفريقيته، وكان بإمكان الروائي التوسل بمغنّ إفريقي آخر يفوقه شهرة، وهو مايكل جاكسون، لكن تم استبعاده، لأنه مسلوب الهوية، متنكر حتي للونه. تتحدث كلمات الأغنية الإفريقية عن مصير الإنسان الأسود في القارة الأمريكية، بعد أن اقتلع من تربته الطبيعية في رحاب إفريقيا. فيفكر يوسف في القهر، الذي عانته البشرية بسبب التمييز العنصري، وفي أصدقائه الحالمين بالضفة الأخري.. وهي إشارة لبيبة من الكاتب لنستحضر سلبيات الهجرة، وأهمها ما نلمسه عند الجيل الثاني من المهاجرين، الذي ينشأ أفراده شبه مهجنين، ممزقين بين دم عربي وأرض غريبة.. والحديث عن الاستلاب الأمريكي يجعلنا نستحضر فصلا سابقًا، يبدو كأنه مقاربة نقدية لفيلم سينمائي أمريكي. بإمكاننا أن نتساءل ببراءة : هل تستطيع أغنية إفريقية هزم فيلم سينمائي أمريكي؟ بالتأكيد لا، فالفنون تتلاقح في ما بينها، ولا تتصارع.. الصراع اختراع إنساني محض، والفن أسمي من كل هذه النزعات البشرية المنحرفة، لكن ننوه باحتفاء مصطفي لغتيري بثلاثة فنون في روايته : الرسم، الموسيقي والسينما. في هذا الفصل وظف الكاتب المحكي السينمائي ببراعة، لا سيما وأن الخلفية الزمنية للرواية هي بداية التسعينات، حيث شهد العالم ما عرف بعاصفة الصحراء، وفي عتمة قاعة السينما يعتبر يوسف شن أمريكا غارة علي العراق محاولة لتصفية حسابات مع الماضي.. للكبرياء الأمريكي، الذي تمرغ في الوحل الفيتنامي. وفي لمحة ذكية عن القطيع، الذي تقوده أمريكا، يشير الكاتب إلي توقف بطل الفيلم عن الركض، والذي قضي مدة طويلة في الفيلم، وهو يركض، وعند ما قرر التوقف والعودة إلي بيته، سأله بعض من التحقوا به وركضوا معه، فأجابهم ببساطة : - لقد تعبت وأريد العودة إلي البيت. حينذاك علق آخر متسائلا : - ونحن ماذا نفعل؟ ويفسر السارد هذا المشهد بأنها "ثقافة القطيع" التي تحكم البشر، "فالمرء يحتاج دومًا إلي أن يبرر سلوكياته من خلال ما يقوم به الآخرين، حتي لو كان يعلم أنهم مخطئون" (ص55). "رقصة العنكبوت" تشكل رافدًا جديدًا إلي التجربة الروائية لدي مصطفي لغتيري، وإضافة نوعية للمكتبة المغربية والعربية، إنها رواية تحتاج إلي أكثر من قراءة، حتي يمكن أن تسبر أغوارها، وتملأ بياضاتها، ولو كتبت بأسلوب سهل ممتنع، و...مخاتل.
