مع نجاح ثورة 25 يناير، تحدث غير واحد من الأجيال المصرية القديمة، مشيدين بشباب الثورة، ومعتبرين جيل الثورة أفضل الأجيال المصرية علي الإطلاق، وعلي مدي تاريخ مصر الطويل والعريق، ولم ينسوا أن يجلدوا ذوات أجيالهم، متهمين أنفسهم بالضعف والخضوع والاستكانة، والرضوخ لأنظمة فاسدة ..ولم يختلف في التعبير عن ذلك، عالم مرموق مثل فاروق الباز ( مواليد 1938 )، وصل في جلد ذات جيله الي حد أن اتهم جيله بأنه سبب كل نكبات مصر المعاصرة، أو موسيقي نابه مثل عمار الشريعي، نطقت موسيقاه بتفاصيل مصر الحميمة ومنمنماتها الخلابة والمدهشة، حينما انحاز لمطالب الثورة المصرية، ولدفق شبابها وأحلامهم، برغم أن موسيقاه وألحانه التقت يوماً مع تدشين مشروع الرئيس السابق في دوراته الرئاسية الأولي، وفي حفلاته الأكتوبرية .. وجلد عمار ذاته، مع جلده لكل جيل السبعينات من مجايليه .. وتحدث في نفس المضمار، سياسيون وأدباء وفنانون من أجيال مختلفة، ووصل الأمر ببعضهم، مثل المخرج السينمائي خالد يوسف ( مواليد 1964 ) بأن طالب بأن يتحمل الشباب المسئولية كاملة، في كل مناحي الحياة بمصر، وتكتفي الأجيال الأقدم بصفة المراقبين .. ولست ضد أن تجلد الأجيال المصرية ذواتها، وتعبر عن حزنها لأنها لم تفعل ما فعله جيل شباب 25 يناير، لكنني أنظر لكل حدث من خلال سياقه وظروفه، فجيل الستينات الذي ينتمي إليه فاروق الباز، تفتحت عيناه علي ثورات التحرر الوطني، وتلامس مع أحلام الشعوب الفقيرة في آسيا وأفريقيا، وترك أحلامه بين يد زعامات وطنية في وقتها، قبل ان تتحول تلك الزعامات الي أنظمة ديكتاتورية، لا تقبل بالرأي الآخر، أو الصوت المخالف، أو حتي بالحلم في ديمقراطية حقيقية .. وثار شباب الستينات في مصر عام 1968، في توقيت متقارب مع تظاهرات مماثلة في كل بقاع العالم، في عام عمّ فيه الغضب والرفض كل أصقاع الكرة الأرضية، لأسباب مختلفة، خصّ مصر منها : سبب ظاهري تمثل في المحاكمات الهزيلة لقادة الطيران المصري بعد هزيمة يونية 1967، وسبب جوهري تمثل في أزمة النظام المصري وشرعيته، ومدي تعبيره عن مطالب المصريين بعد الهزيمة المخزية .. وتم وأد ثورة الشباب حينها، ولم يتبن انتفاضتهم فئات الشعب المختلفة، وطوائفه المتنوعة، في ظل نظام شمولي سلطوي، حمل المصريون لرمزه وأيقونته، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رصيداً أبوياً بالرغم من الهزيمة المهينة، لأنه بالرغم من أخطائه وخطاياه، لم ينكر عليه أحد شرفه أو وطنيته .. وفي يناير عام 1972، انتفض الشباب مرة أخري، وسبب انتفاضته الظاهري، خطاب الرئيس الراحل محمد أنور السادات، المسمي بخطاب الضباب، والذي برر فيه عدم خوضه الحرب في عام 1971، بسبب الضباب الذي غلّف العالم بعد حرب الهند وباكستان، أما السبب الجوهري والحقيقي فهو المطالبة بالحرية والديمقراطية، أو علي حد تعبير الثوار الشباب وقتها ( كل الديمقراطية للشعب، كل التفاني للوطن ) ولم تتبن جموع الشعب أيضاً وقتها ثورة الشباب أو تشاركه انتفاضته واحتجاجه، ربما باستثناء بعض المثقفين والأهالي المجاورين للميدان، سيما أن نظام الرئيس السادات، لم يختلف عن نظام سلفه الرئيس جمال عبد الناصر، في سلطويته واستحواذه علي كل منافذ الرأي والتعبير، المقروءة والمسموعة والمرئية .. وفضّ الأمن المركزي انتفاضة الشباب بكل عنف، وفرق مجموعات الشباب، ومعها تفرقت أحلامهم بوطن حر وديمقراطي .. وتكرر الأمر في انتفاضة 17 - 18 يناير، في عام 1977، بعد القرارت الاقتصادية بزيادة اسعار السلع الاساسية، ووصلت حدة الانتفاضة حينها، أن نزل الجيش الي الشوارع ليحد منها، ومن تطورها وانتشارها . وعالجت القيادة السياسية وقتها أزمتها السياسية، بعودة أسعار السلع الأساسية إلي طبيعتها، ونعت الانتفاضة الشعبية بانتفاضة الحرامية في كل أجهزة الاعلام الرسمية، لمحو وطمس نضال الشرفاء من أجل العدالة والحرية . وبدأ من حينها التنسيق بين نظام السادات والجماعات الاسلامية، وعلي رأسها الإخوان المسلمين، للقضاء علي أصحاب الميول اليسارية والاشتراكية .. فطوال تارخ مصر المعاصر، لم يقف أي جيل من الأجيال مكتوف الأيدي، وعبّر عن أحلامه وآماله في مستقبل وطنه وبلاده، لكن الظرف التاريخي يختلف من عصر الي عصر، ومن زمن الي زمن، وكل الانتفاضات المصرية في الخمسين عاماً الاخيرة، حدثت في ظروف سياسية ومجتمعية واقتصادية وثقافية جد مختلفة .. ومن الظلم أن نقارن جيلابجيل، كما لا يمكننا أن نري فترة من الفترات بعيداً عن سياقها وأحداثها الداخلية والخارجية، فشباب 25 يناير، امتلكوا أدوات لم يمتلكها جيل من قبلهم ، وعاشوا في فضاءات أكثر رحابة وحرية، سواء في واقعهم الافتراضي عبر الانترنت، أو حتي في تتبعهم اليومي لمّا تبثه الفضائيات العربية وغير العربية، عبر الاقمار الصناعية المفتوحة، بعكس الأجيال السابقة التي تشكلت عبر إعلام رسمي موجه، وليس له أية بدائل او نظائر في واقع معيشهم اليومي، ولعلنا نتذكر ظاهرة مجلات الحائط، ومنشورات الماستر، ودوريات المثقفين الطليعيين، التي خرجت بأبسط الإمكانيات وأفقرها، إبان فترتي الستينات والسبعينات من القرن الفائت، وكيف كانت حدثاً مغايراً وقتها، برغم أنها ظلت محصورة بين النخب المثقفة فقط . وبالطبع لا يمكن مقارنة تأثيرها وانتشارها، بتأثير السماوات المفتوحة، وفضاءات الانترنت .. وتميز شباب 25 يناير، بأن (معظمهم) لم يقع أسيراً لأيديولوجيات أو أفكار، ولم ينتم الي أحزاب رسمية أو سرية، ولم تحركهم إلا مشاعر وطنية مجردة من أي هوي، فتجاوزوا دون أن يدروا مغبة القفز علي أحلامهم، من ساسة معارضين تكلسوا ووهنو، وارتضوا في الثلاثين عاماً الاخيرة بأن يقبعوا في ظل الظل، منتظرين لهدايا النظام وصفقاته معهم، كسقط متاع من شرفات القصر الرئاسي .. ولا يمكن إغفال دور الرئيس السابق حسني مبارك، في نجاح ثورة يناير، بتسخيره كل مقدرات الدولة المصرية لمشروع التوريث، واستعلائه ووريثه علي الشعب المصري، وتمريرهما لكل ما يريدان ويرغبان من سياسات، دون أي اعتبار أو حتي تفكير في شعب يعيش تحت وطأة الفقر والفساد، وكأن المصريين كائنات لا تُري بالعين المجردة، ومجرد طحالب تعلو نهر النيل .. وظن الرئيس ووريثه، أن سياجاً فولاذيا يحول بينهما وبين ثورة المصريين، وبين كشف ما اقترفته العائلة الرئاسية من نهب منظم وممنهج لثروات بلد، لايستحقون أن يحملوا اسمه أو كنيته .. وصنع مبارك عامداً حالة من الفراغ السياسي المصري، ليجعل الناس أمام اختيار واحد، لا مفر منه، ولا بديل عنه، وفي سبيله قضي علي كل سبل التغيير، فجعل الناس أمام شيئين لا ثالث لهما، الثورة أو اختيار وريثه، الذي تسبب في العقد الاخير بحكمه الفعلي للبلاد، في قتل أحلام المصريين، وإفقارهم ووضعهم علي حافة الموت البطيء والمذل، وشواهد : العبّارة 98، قطارات الموت، رحلات الغرق، الموت لآلاف الشباب المصريين، هرباً من مصر الي أوروبا، ما زالت ماثلة في ذاكرة المصريين .. لكل ذلك تبنت الجماعة المصرية بكل أطيافها و تنوعاتها، وطوائفها وفئاتها، انتفاضة الشباب، وتحولت من مجرد حركة احتجاجية، إلي ثورة شعبية، أو الثورة المصرية بألف ولام العهد، فليس لمثلها مثيل في تاريخ مصر، وذلك لأن ظرفها التاريخي يختلف تمام الاختلاف عما سبقها من انتفاضات ومظاهرات، وتجمعت لها من المعطيات والأسباب، ما أجج منها ووسع من انتشارها، وزاد من تأثيرها .. لذلك لا حاجة للأجيال القديمة، خاصة الثائرين والمناضلين منهم، أن يبكوا علي عصرهم الذي مر، دون أن يضعوا أقدامهم علي الطريق الصحيح، فثورة 25 يناير، لم تكن ثورة جيل واحد، بل ثورة كل المصريين .. لأن الجسد المصري مات إكلينيكياً في السنوات الاخيرة، وكان لابد من ثورة ليستعيد عافيته من جديد.