في مقال سابق كان لكاتب السطور محاولة لرصد سريع لجوانب الإدارة العلمية التي ننشد تطبيقاتها في مؤسساتنا الدينية، بداية من تحديد الأهداف، والتواصل الحميم مع جماعات المؤمنين وتفعيل سبل مشاركتهم في اتخاذ القرارات، ودعم فكرة لامركزية الإدارة للتفاعل مع ظروف حضارية وبيئية وشعبية متنوعة ينبغي مراعاتها في كل فروع تلك المؤسسات المنتشرة بطول البلاد وعرضها.. إلي غير ذلك من أسس نجاح الإدارة العلمية التي باتت ضرورية حتي تعود تلك المؤسسات لأن تلعب دورها الروحي والإنساني الداعم للتنشئة الاجتماعية، والتركيبة القيمية والسلوكية الإيجابية لدي أجيالنا الطالعة.. ولاشك أن السعي نحو إعادة تفعيل دور تلك المؤسسات لبعث حالة من التوازن الاجتماعي، ونشر مفاهيم التعايش، والسلام الإنساني، والتكافل النبيل، والمساهمة في نشر حالة من الأمان بين الناس أمر مهم في زمن انتشار العديد من أنماط التدين المغشوش والشكلي، والاتجار بمشاعر التدين الفطري الجميل المعتدل لدي عموم الناس، والدفع في اتجاه الجنوح والشرود والمغالاة الطائفية.. في زمن تفرض العولمة قوانينها وآلياتها، وتفرد أشرعتها الإيجابية أحياناً والسلبية في أحيان أخري في كل ربوع الدنيا، كان ينبغي أن تشهد مؤسساتنا الإعلامية المعنية بأمورالعقائد والأديان نوبة صحيان لضبط مؤشرات الخطاب الإعلامي عبر الأخذ بنظم إدارية علمية معاصرة تعتمد آليات القياس، ووضع الاستراتيجيات المناسبة من خلال ابتكار نظم وبرامج عمل لتحقيق مصالح الناس والوطن، ومواجهة الأزمات، بالإضافة إلي ضرورة دراسة المهام المطلوب إنجازها وصولاً إلي الأسلوب الأفضل في تنفيذ أو أداء الواجبات.. الإعلام وكنيسة القديسين برغم حالة اتفاق نسبي بين الناس بشأن نجاح الإعلام عقب حادث كنيسة القديسين المأساوي في التواكب مع رد فعل الشارع المصري بكل أطيافه الفكرية والعقائدية والإنسانية، عندما أعلنوا جميعاً أننا مصريون نكافح من أجل بناء دولة مدنية يرفضون في رحابها أن تقترب من بدن الوطن معاول الفُرقة وزرع الفتنة، أوالمضي في مواكب أصحاب الفكر المتخلف، ومن يتبنون قناعات التراجع القيمي والإنساني.. فكان الأداء الإعلامي مبادراً ومتلاحماً مع الناس في كل حالاتهم، ومواقعهم بشكل تفاعلي طيب.. ولكن يسأل الناس أصحاب القرار في أجهزة الإعلام والثقافة: هل هي مجرد زفة إعلامية لامتصاص حالة غضب مصرية إنسانية؟ هل نأمل أن يبادر القائمون علي إدارة المؤسسات الإعلامية لإعداد منظومة إعلامية مستقرة متوازنة لتشكيل وتوطين ثقافة إيجابية مستنيرة لدي عموم المواطنين في مواجهة تسيد أفكار تراثية فلكلورية شعبوية علي جانبي النهر في وطن يشهد من آن إلي آخر حالات احتقان، عبر تزايد عمليات التأثير علي عقول البسطاء من العباد، وصولاً إلي انفجارحوادث تستهدف أمن البلاد، وترويع فلذات الأكباد ؟ علي سبيل المثال، طرح الكاتب والمؤرخ الوطني الكبير صلاح عيسي مؤخراً طرح جريء أعتقد أنه يأتي كصفحة جديدة، وحكاية يمكن أن تضاف إلي كتابه المهم " حكايات من دفتر الوطن ".. والطرح جاء في مقال مهم علي صفحات جريدتنا " القاهرة " تحت عنوان " حرية العقيدة.. أهم أوراق ملف المسألة الطائفية " تصورت بعد نشره أن يتسارع أصحاب الرأي من المعنيين بأمر وأحوال السلام الاجتماعي علي أرض المحروسة أن يدلوا بدلوهم حول ماطرحه المقال بوضوح والتزام بمصالح الوطن، وإن كنت لم أفقد الأمل بعد في أن تبادرمؤسساتنا البحثية، ومراكز استطلاع الرأي بالدخول في دوائر حوار مسئولة لتناول أمر حرية العقيدة.. من أهم ما جاء في سطورالمقال " أن القانون المصري لا يتضمن في نصوصه سوي مادة واحدة تتعلق بحرية تغيير الدين، هي المادة 47 من قانون الأحوال المدنية، وهي مادة تطلق حق المواطن في تغيير بيانات خانة الديانة، بمجرد تقديم أحد مستندين، إما حكم بتغيير الديانة من المحكمة المختصة، أو وثيقة تغيير ديانة صادرة من جهة الاختصاص، وتلك هي الثغرة التي تنفذ منها الجهات الإدارية والعناصر البيروقراطية، لكي تثير العواصف الترابية التي تتعلق بحرية العقيدة، وتتحول إلي احتقانات طائفية، فليست هناك طبقاً للمادة 46 من الدستور محكمة مختصة بتغيير الدين، ولا ينبغي أن تكون، وليست هناك جهة اختصاص لها الحق في أن تمنح وثيقة تغيير ديانة، ولا ينبغي أن يكون، والإجراء التنظيمي الوحيد الذي كان متبعاً في مصر قبل ذلك، هو أن يتقدم المواطن الراغب في تغيير بيانات ديانته إلي الجهة المختصة، وكانت آنذاك الشهر العقاري طالباً تغيير هذه البيانات في أوراقه الثبوتية، وكان الإجراء الوحيد الذي تتبعه هو أن تخطر أحد رجال الدين الذي كان يتبعه، لكي يجتمع به، ويحاول إثناءه عن تغيير دينه، فإذا رفض سجلت له البيان الذي يطلبه وحسابه أخطأ أو أصاب علي الله تعالي. ذلك هو الباب الذي يأتي منه الريح، والذي قاد عشرات ومئات من المواطنين إلي محاكم القضاء الإداري، ليقاضوا مصلحة الأحوال المدنية، وهي تابعة لوزارة الداخلية ".. المواطن المصري في انتظار حالة من التفاعل مع " تباريح " مفكرنا الكبير.. وإن كنت أتمني رفع شعار " رجال الدين يمتنعون "!! تكريم رموز دينية هل نطمح في اقتراب ميكروفونات وكاميرات مؤسساتنا الإعلامية في مبادرات لإبراز وتكريم رموزنا الدينية، عند اتخاذهم قرارات ومواقف من شأنها سد منابع الفتنة، ولم الشمل الوطني، في تحقيق لمقولة رائعة للعلامة رفاعة رافع الطهطاوي (1871- 1873م)- رائد التنوير في مصر الحديثة " ليكن الوطن محلاً للسعادة المشتركة بيننا نبنيه معاً".. هل نأمل أن يبادر القائمون علي إدارة المشروع العبقري " القراءة للجميع " تبني سلسلة إصدارات من شأنها الرد علي كل دعاوي التضليل من جانب أشاوسة الفتن، وجهابذة من يوهمون الناس أنهم أصحاب التوكيلات بامتلاك الحق المطلق علي أبواب المساجد والكنائس ليحولوا بيننا والخالق العظيم وتعاليمه الواضحة الجلية، مع العلم أننا لا نريدها إصدارات تتجاهل حالة الاحتقان، فتحدثنا بسذاجة عما يسمونه المشترك.. نريد فقط أن يحدثوننا عن صحيح الأديان والقراءات الطيبة لتعاليم تم تشويهها، وآيات لايمكن أن تحمل سوي السعادة والحث علي العيش المشترك..؟ هل نأمل أن يبادر القائمون علي إدارة قصور الثقافة برعاية رئيسها النشط تبني سلسلة فعاليات دورية لاتتوقف نحو قراءة مستنيرة للصفحات البيضاء في تاريخ الشعب المصري، والتوقف عند جهود رموز الاستنارة، ورواد العمل الثقافي في بلادنا، عبر تنظيم مسابقات، وإقامة عروض فنية تتعدد أشكالها واتجاهاتها الفكرية في كل ربوع الوطن.. ؟ هل نأمل أن يبادر القائمون علي إدارة الدورات القادمة لمعرض الكتاب لإيجاد الوسيلة الناجحة لمجابهة أكشاك وحوانيت المتاجرة بالمسيحية والإسلام، وتسريب أفكار داعمة للتشدد والجنوح الطائفي؟ هل نأمل أن يبادر القائمون علي إدارة المراكز البحثية والأكاديمية لإعداد بحوث تتناول مدي نجاح إدارة الوسائل الإعلامية المحلية والإقليمية في التفاعل الإيجابي مع الأحداث التي تباغت الناس، والتي قد تؤثر علي شكل وحال علاقاتهم كبشر في وطن واحد، وتقديم المزيد من الدراسات العلمية لتطوير آليات إعلام الكوارث والأزمات، والتوقف عند سلبيات إعلام عشوائي يُنذر بمخاطر وكوارث، وسبل كشفه والتصدي له، ومعالجة سلبياته؟ إعلام داعم لا شك أننا بتنا في حاجة ملحة إلي إعلام داعم ومحفز لإطلاق دعوات التسامح بكل أشكاله ودرجاته.. تسامح فكري واجتماعي وديني وإنساني، وأن تتشارك كل القوي في صياغة وإثراء حالة من التوافق النبيل تسمح بالتعايش الهادئ في وطن واحد بعيداً عن إعلام التعصب والخطب الحنجورية ورمي الأحجار في وجه الآخر،إلي حد أننا وصلنا إلي حالة لم نعد فيها رؤية بعضنا البعض من فرط ما نضع من سدود وسواتر بينية تلغي فرص الرؤية الإنسانية والفكرية الوطنية، عبرقراءة حكيمة موضوعية في إطار الظروف المحيطة، وصدق " توماس هوبز" عندما أكد علي أن الدولة الكاملة هي التي لا تنشأ من الطبيعة، ويستلزم ذلك عقداً اجتماعياً، لقد وجه "هوبز" للكنيسة رسالة حادة يطالبها بتحديد علاقتها بالنظام الاجتماعي، ورفض أي تنظيمات اجتماعية تتوسط العلاقة بين الفرد والمجتمع في تأكيد علي حركة البشر وفقاً لمصالحهم الخاصة دون وسيط بينهم وبين الدولة.. ويشاركه في رؤيته الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" في مقولته المهمة " الدولة مهمتها الحفاظ علي حقوق الأفراد، ولا علاقة لها مطلقاً بخلاص النفوس، والكنيسة هي مجرد جمعية حرة إرادية لها أن تتدخل في الإيمان، والأولوية هنا للدولة ومصلحتها القومية ".. لقد طرح "جون لوك" تساؤلاً ما زال يتردد حتي الآن حول مدي صلاحيات الكهنوت ودورالمؤسسة الدينية، وكانت إجابته بشكل قاطع أنه مادامت سلطات الكنيسة ذات طابع كنسي فيجب أن تكون مقيدة بحدود الكنيسة، ولا تمتد بأي حال من الأحوال إلي الشئون الدنيوية، لأن الكنيسة يجب أن تكون منفصلة عن الدولة ومتميزة عنها تماماً في هذا الشأن، وهما في رأيه متباعدتان أشد التباعد.. نحتاج إلي إعلام يُكرس قيم التسامح الديني كضرورة يفرضها أمن الوجود الإنساني والحياتي والمجتمعي سعياً إلي إنشاء حالة من الارتقاء والتقدّم والتنمية..جاء في القرآن الكريم: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» فالإنسان ابن مجتمعه ووطنه، فعلي أرضه وبين ناسه وحضارته وتاريخه يكتسب ملامح وجوده..و" عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم وإن متّم بكوا عليكم ".وفي المسيحية " أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر. بل من لطمك علي خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً " (مت 5: 38، 39).. أكرر التذكير بما جاء في مقال تم نشره في مجلة المصور بتاريخ 23يوليو 1926 تحت عنوان "محاربة رجال الدين " أي منذ أكثر من 80 سنة، والتي جاء فيها " كل يوم يحمل إلينا نبأ جديد عن المساعي التي تبذلها بعض الحكومات لمحاربة رجال الدين والقضاء علي نفوذهم، فقد طالعنا أخيراً في إحدي الجرائد الأوروبية مقالاً مطولاً عن حالة تركيا الداخلية وموقف حكومتها إزاء رجال الدين. وطالعنا كذلك في جريدة أمريكية نبذة عن الحالة في بلاد المكسيك حيث تدرس الحكومة مشروعاً لقانون يضع حداً لسلطة رجال الدين . ومن هذه النظم الجديدة أن الكهنة الذين يحرضون الشعب علي العصيان بالرسائل أو الخطب في الكنائس يُجازون بالحبس سنة ويغرمون . ولا يجوز لكاهن من أي مذهب أن يعقد اجتماعاً سرياً أو علنياً أو أن ينشر دعاية دينية أو ينتقد دستور الحكومة . ومن يُخالف يُعاقب بالحبس من سنة إلي خمس سنوات . وستُلغي كل الدروس الدينية من الكليات علي هذه الصورة . وستمنع تأليف الجمعيات السياسية التي لأسمائها علاقة بالدين . كما أنها ستمنع عقد الاجتماعات السياسية في الكنائس، والاحتفاليات الدينية خارج الكنائس . ولناظر الداخلية الحق في إقفال كل كنيسة لا تتقيد بهذه القوانين.. ".. ونحن لانريدها حرباً ولا نطلقها حملة أو رسالة إعلامية (لا قدر الله) في مواجهة رجال دين أصحاب فضيلة وقداسة.. دعاة وشيوخ وكهنة وأساقفة يدعوننا إلي الهداية والإيمان، وإنما نناشد فقط من يتطوع منهم للقيام بأدوار أخري قد تأتي علي حساب أدوارهم الروحية العظيمة أن يتوقفوا ويدعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله .