أورد الكاتب الصحفي محمود السعدني في كتابه الشهير " ألحان السماء " رسالة جاءته من أحد القراء حينما كان ينشر الكتاب على حلقات مسلسلة وفحوي الرسالة عتب على السعدني فبالرغم من عدم معرفة عدائه للمرأة إلا أنه أغفل ذكر الكثيرات من قارئات القرآن المصريات واللاتي لم ينلن شهرة ولا حتى معرفة بين أوساط المصريين بوجودهن من الأساس في دولة التلاوة التي ترفع لافتة " للرجال فقط" ولو على مستوي الذيوع والشهرة ٬ ومازال الكثيرين يرون صوت المرأة كفرجها "عارو عورة" ٬ رغم وجود أكثر من عشر قارئات عضوات بنقابة القراء ٬ وحينما نستدعي المشهد الأشهر في فيلم "سلامة "لسيدة الغناء العربي أم كلثوم ذاك الذي قدمت فيه للمحاكمة لأنها " مغنية" ولم يشفع لها إستحسان " السميعة" حينما رتلت القرآن بصوت شجي عذب يمس شغاف أعتي المارقين عن ملكوته !! ومن طريدات جنة " دولة التلاوة" الشيخة " أم السعد محمد على نجم " الضريرة التي تعد أشهر امرأة معاصرة في عالم قراءات القرآن الكريم فهي السيدة الوحيدة التي تخصصت في القراءات العشر وظلت طوال نصف قرن تمنح إجازاتها في القراءات العشر لجموع طلاب العلم من شتى أنحاء العالم. ولدت "أم السعد" في عام 1925 في قرية البندارية مركز تلا بمحافظة المنوفية، فقدت نور عينيها ولم تتجاوز العام الأول من عمرها وكما كان مصير " طه حسين" نتيجة الجهل والفقراللذان انتشرا حينها اتجه أهلها للعلاج الشعبي بالكحل والزيوت التي كانت سببًا في فقدان بصرها بالكلية، وكعادة أهل الريف مع العميان نذرها أهلها لخدمة القرآن الكريم حتى حفظت القرآن الكريم في مدرسة "حسن صبح" بالإسكندرية في الخامسة عشرة حيث عاشت بحارة الشمرلي بحي بحري العريق بالإسكندرية. أتمت "أم السعد" حفظ القرآن الكريم وهي في الخامسة عشرة من عمرها وحينها ذهبت إلى الشيخة "نفيسة بنت أبو العلا" "شيخة أهل زمانها" كما توصف، لتطلب منها تعلم القراءات العشر، اشترطت عليها ألا تتزوج أبدًا، فقد كانت ترفض بشدة تعليم البنات؛ لأنهن يتزوجن وينشغلن فيهملن القرآن الكريم، وقد قبلت مؤقتا "أم السعد" شرط شيختها التي كانت معروفة بصرامتها وقسوتها على السيدات ككل اللواتي لا يصلحن –في رأيها– لهذه المهمة الشريفة ! ومما شجعها على ذلك أن "نفيسة" نفسها لم تتزوج رغم كثرة من طلبوها للزواج من الأكابر، وماتت وهي بكر في الثمانين، انقطاعًا للقرآن الكريم ! تقول أم السعد عن قصة زواجها: "لم أستطع الوفاء بالوعد الذي قطعته لشيختي نفيسة بعدم الزواج٬ كان يقرأ عليَّ القرآن بالقراءات ارتحت له كان مثلي ضريرًا وحفظ القرآن الكريم في سنّ مبكرة درَّست له خمس سنوات كاملة، وحين أكمل القراءات العشر وأخذ إجازاتها طلب يدي للزواج، فقبلت ". واستمر زواجهما أربعين سنة كاملة لم تنجب فيها أولادًا وتعلّق قائلة: الحمد لله أشعر بأن الله عز وجل يختار لي الخير دائمًا ٬ ربما لو أنجبت لانشغلت بالأولاد عن القرآن، وربما نسيته ". حين أتمت حفظها للقرآن الكريم بقراءاته العشر كان عدد الحفاظ قليلًا، ولم يكن هناك مذياع أو تليفزيون، فكان الأهالي يستعينون بها مثل شيختها في قراءة القرآن في المناسبات والاحتفالات الدينية ٬ وكان مقبولًا وقتها أن تقرأ امرأة القرآن الكريم وتجوِّده في حضور الرجال الذين كانوايمتدحون حسن قراءتها وجمال تجويدها، غير أن هذا التقليد انقرض الآن بعد انتشار القراءّ ودخول الإذاعة والتليفزيون والوسائط الحديثة في كل مكان، وصار أقصى ما يمكن أن تقوم به القارئة أن تحيي حفلًا دينيًّا خاصًّا بالسيدات فقط، وهو ما يحدث نادرًا. تردد عليها لحفظ القرآن ونيل إجازات القراءات صنوف شتى من جميع الأعمار، والتخصصات، والمستويات الاجتماعية والعلمية، وكانت تخصص لكل طالب وقتًا، لا يتجاوز ساعة في اليوم يقرأ عليها الطالب ما يحفظه فتصحح له قراءته حتى يختم القرآن الكريم بإحدى القراءات، وكلما انتهى من قراءة منحته إجازة مكتوبة ومختومة بخاتمها تؤكد فيها أن هذا الطالب "خادم القرآن" قرأ عليها القرآن كاملًا صحيحًا دقيقًا، وفق القراءة التي تمنحه إجازتها؛ فكانت السيدة الوحيدة في وقتها التي يسافر إليها القراء وحفظة القرآن؛ من أجل الحصول على "إجازة" في القراءات العشر. وكان أكثر ما يسعدها أن مئات الإجازات التي منحتها في القراءات العشر يبدأ سند تسلسل الحفاظ باسمها، ثم اسم شيختها نفيسة ليمتد عبر مئات الحفاظ وعلماء القراءات بمن فيهم القراء العشرة "عاصم، نافع أبوعمرو، حمزة، ابن كثير، الكسائي، ابن عامر، أبوجعفر، يعقوب، خلف" إلى أن ينتهي بالرسول المصطفى "صلى الله عليه وسلم ". وكانت من أرفق المعلمين بطلابها،وأشهرهم القارئ الطبيب "أحمد نعينع" الذي قرأ عليها وأخذ عنها إجازة، وكذا عدد من أساتذة وشيوخ معهد القراءات بالإسكندرية ٬ وتقول عن تلاميذها: "أتذكر كل واحد منهم، هناك من أعطيته إجازة بقراءة واحدة، وهناك -وهم قليلون- من أخذوا إجازات بالقراءات العشر مختومة بختمي الخاص الذي أحتفظ به معي دائمًا، ولا أسلمه لأحد مهما كانت ثقتي فيه". سافرت أم السعد إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج وأقامت في الأراضي الحجازية سنة كاملة، وهناك منحت إجازات في القراءات المختلفة لعشرات الحفاظ من كل البلاد الإسلامية: السعودية، باكستان، السودان، فلسطين، سورية، تشاد، أفغانستان، وغيرها. بعد حياة حافلة بالإقراء ومدارسة القرآن الكريم وخدمته، توفيت أم السعد في فجر 9 / 10 / 2006 عن عمر يناهز واحد وثمانون عامًا وقد شيعت جنازتها من مسجد ابن خلدون بمنطقة بحري بالإسكندرية.