عماد الدين حسين: نتابع تنفيذ توصيات الحوار الوطني من الحكومة الجديدة    انطلاق الموجة ال 23 لإزالة التعديات على الأراضي بالبحيرة    جيش الاحتلال يعترف بمجزرة مدرسة النصيرات    يورو 2024، تركيا تتقدم على هولندا بهدف في الشوط الأول    "ينفع أيه التعليم فى وطن ضايع" ..تسريب الكيمياء والجغرافيا فى امتحانات الثانوية العامة والغش الجماعى عرض مستمر    إيلون ماسك يفجر مفاجأة بشأن تطبيق واتساب.. ماذا قال؟    حبس شقيق مطرب المهرجانات عصام صاصا بتهمة تزوير توكيل    تفاصيل القبض على حسام حبيب بعد التعدي على شيرين عبد الوهاب    مصدر رفيع المستوى: مصر تستضيف وفودا إسرائيلية وأمريكية للتباحث حول اتفاق التهدئة بغزة    لميس الحديدى عن رحيل أحمد رفعت: خبر حزين فاجأ الشارع والوسط الرياضى    متخصص فى الشأن السودانى: قمة القاهرة نقطة فارقة فى مسار حل الأزمة السودانية    طبيب الراحل أحمد رفعت يكشف تفاصيل حالته الصحية قبل وفاته    قافلة طبية مجانية ضمن «حياة كريمة» في قرية الكشاكوة بكفر الشيخ لمدة يومين    تركي آل الشيخ: مصر تسبقنا في الخبرات الفنية.. وشراكتنا تهدف للتكامل    دعاء النبي وأفضل الأدعية المستجابة.. أدعية العام الهجري الجديد 1446    نادٍ إسباني يخطف صفقة مانشستر سيتي    هل هناك تغيير في موعد انتهاء تخفيف الأحمال ؟.. متحدث الحكومة يجيب    ننشر أقوال إمام عاشور بواقعة تعديه على فرد أمن مول بالشيخ زايد    من مسجد السيدة زينب.. بدء احتفال وزارة الأوقاف بالعام الهجري الجديد    من مقلب نفايات لمعلم عالمي.. صندوق التنمية الحضرية: حدائق الفسطاط ستكون الأجمل بالشرق الأوسط    المقاومة الفلسطينية تعرض مشاهد من أبرز عملياتها لقنص الجنود اليهود    ارتفاع واردات السيارات المستوردة بنسبة 5.3% فى مصر خلال أول 5 أشهر    شولتس يجري اتصالا هاتفيا برئيس الوزراء البريطاني الجديد    رسميًا.. وزير الصحة يعد بإنهاء أزمة نواقص الأدوية في هذا الموعد (فيديو)    3 قرارات.. نتائج جلسة المناقشة الثانية لمجلس نقابة المحامين    إستونيا تعلن تزويد كييف بمنظومات دفاع جوي قصيرة المدى    محافظ القاهرة يتفقد أحياء المنطقة الجنوبية    البابا تواضروس يشهد سيامة 24 كاهنًا جديدًا للخدمة بمصر والخارج    جامعة أسيوط تنظم حفل تخرج الدفعة رقم 57 من كلية التجارة    المروحة تبدأ من 800 جنيه.. أسعار الأجهزة الكهربائية اليوم في مصر 2024    توطين مليون يهودى فى الضفة «مخطط الشر» لإنهاء حل الدولتين    لأول مرة.. هروب جماعى لنجوم «الفراعنة» من أوليمبياد باريس    ضمن «حياة كريمة».. 42 وحدة صحية ضمن المرحلة الأولى من بني سويف    رانيا المشاط.. الاقتصادية    كلاكيت تاني مرة.. جامعة المنيا ضمن التصنيف الهولندي للجامعات    ناجلسمان يتطلع للمنافسة على كأس العالم بعد توديع ألمانيا ليورو 2024    عماد حسين: الحوار الوطنى يحظى بدعم كبير من الرئيس السيسي    خلال جولة رئيس الوزراء فى حديقة الأزبكية .. الانتهاء من أعمال التطوير بنسبة 93%    نتيجة الدبلومات الفنية 2024 (صناعي وزراعي وتجاري).. خطوات الحصول عليها    تأجيل محاكمة 3 مسؤولين بتهمة سرقة تمثال من المتحف الكبير لجلسة 7 أكتوبر    وزير الصحة يستقبل وفد من جامعة «كوكيشان» اليابانية لمتابعة الخطة التدريبية للمسعفين المصريين    أيام الصيام في شهر محرم 2024.. تبدأ غدا وأشهرها عاشوراء    المركز المسيحي الإسلامي يُنظم ورشة للكتابة الصحفية    انطلاق أولى حلقات الصالون الثقافي الصيفي بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية    هل نجح الزمالك في إنهاء أزمة إيقاف القيد ..مصدر يوضح    أجواء مميزة وطقس معتدل على شواطئ مطروح والحرارة العظمى 29 درجة.. فيديو    "مات أحمد رفعت وسيموت آخرون".. مالك دجلة يطالب بإلغاء الدوري وتكريم اللاعب    لطلاب الثانوية العامة، أفضل مشروبات للتخلص من التوتر    وزير الخارجية: مصر تسعى لدعم دول الجوار الأكثر تضررًا من الأزمة السودانية    خبيرة فلك: ولادة قمر جديد يبشر برج السرطان بنجاحات عديدة    مصر وسوريا تشددان على الرفض التام لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية أو تهجير الفلسطينيين.. الرئيس السيسى يؤكد ل"الأسد" مواصلة الجهود الرامية لوقف إطلاق النار بقطاع غزة وإنفاذ المساعدات الإنسانية بصورة مستدامة    مفتى الجمهورية: التهنئة بقدوم العام الهجرى مستحبة شرعًا    ما الحكمة من اعتبار أول شهر المحرم بداية العام الهجري؟ الإفتاء تُجيب    ماذا يريد الحوار الوطنى من وزارة الصحة؟...توصيات الحوار الوطنى تضع الخطة    «في الساحل الشمالي».. شوبير يكشف عن أولى صفقات الأهلي (فيديو)    احتفالات السنة الهجرية الجديدة 1446 في العراق    «استحملت كلام كتير».. رد ناري من جمال علام على خروج إبراهيم عادل من معسكر المنتخب الأولمبي    تسنيم: بزشكيان يتقدم على جليلي في الفرز الأولي لأصوات الانتخابات الرئاسية الإيرانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السؤال الصعب: هل يستحق العالم العربي الديمقراطية؟
نشر في البوابة يوم 07 - 07 - 2016

النخب السياسية العربية المعارضة تتشدق بالديمقراطية وتنتقد النظم السلطوية وعندما تصبح في السلطة تحاكى الديكتاتوريين.. تأسيس نظم ديمقراطية مستقرة مستحيل في غياب ثقافة سياسية داعمة للديمقراطية القيم الليبرالية لم تكن يومًا جزءًا من الثقافة العربية.. الحكام الجدد بعد «الربيع العربى» شرعوا في تقسيم الغنائم بعد أن ظنوا أنها قد آلت إليهم.. لا يعتبر تأسيس نظام ديمقراطى أمرًا ذا أولوية لدى أغلبية المواطنين العرب.. ليست كل الدول الغربية تحرص على ترسيخ النظم الديمقراطية
تعامل الكُتَّاب والباحثون مع الديمقراطية باعتبارها حلًا سحريًا لمشكلات المجتمعات جميعها، بغض النظر عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعمل في إطارها النظم السياسية.
وفى ذروة الحرب الباردة، هوجمت الديمقراطية الغربية من قِبل المعسكر السوفيتى ومناصريه باعتبارها أداة لسيطرة الأثرياء المرتبطين بالقوة الامبريالية على مقدَّرات هذه الدول.
وتسلَّلت بعض هذه المفاهيم والعبارات إلى عالمنا العربى على يد الضباط «الثوريين» و«التقدميين» في مصر وسوريا والعراق وغيرها، حيث تم القضاء على التجارب التي تبنت نمطًا من الديمقراطية الغربية المؤسَّسة على وجود دساتير تنتصر للقيم الديمقراطية وتسمح بالتعدد الحزبى وبوجود مجالس نيابية منتخبة.
ومن المتفق عليه أن هذه التجارب الليبرالية عانت من العديد من العيوب التي كان من أبرزها عدم احترام الدستور أحيانًا من قِبل بعض النخب السياسية الفاعلة، وتزييف إرادة الناخبين.
وقد استغل الضباط «التقدميون والثوريون» هذه الثغرات كى يهدموا هذه التجارب برمتها، بدلًا من السعى لإصلاحها، ومن ثَم، تم إلغاء التعددية الحزبية والتحول نحو تنظيم سياسي وحيد أو حزب واحد أو مهيمن، واحتلت «الديمقراطية الاجتماعية» المرتبة الأسمى على حساب نظيرتها السياسية، وأصبحت الحرية السياسية بلا قيمة ما لم تسبقها «حرية الخبز».
ولاريب أن بعضًا من هذه المقولات كان ذا صدقية، بيد أن العيوب التي رانت على التجارب الليبرالية العربية فيما بين الحربين لم تكن مبررًا للقضاء على كل ما يمت إلى الحرية بصلة، سواء أكانت سياسية أم غيرها. لقد تبنت مصر الناصرية، وسوريا والعراق البعثيتان، وتونس مع بورقيبة وخليفته بن على، والجزائر مع بن بِلَّة ثم بومدين ومَن خلفهما، واليمن منذ تأسيس الجمهورية، وليبيا مع القذافى؛ تبنت جميعًا نظم الحزب الواحد أو التنظيم السياسي الوحيد، وهاجمت الديمقراطية الغربية وقيمها، وقد وصل الهجوم ذروته مع مقولة القذافى «من تحزَّب خان».
تجارب 4 دول
جاءت أحداث نهاية 2010 وبداية 2011 في بعض الدول العربية لتعيد تجربة ما بين الحربين، فقد ظن البعض، وبعض الظن- وليس كله- إثم، أن تغيير بن على ومبارك والقذافى وصالح سيفتح الأبواب على مصاريعها لإقامة نظم سياسية ديمقراطية على النمط الغربى تشبه نظيراتها في أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان؛ في تكرار لما سعت إليه النخب العربية غربية الثقافة التي قادت النظم السياسية العربية في حقبة ما بين الحربين العالميتين برعاية بريطانية وفرنسية.
وكما كان زعماء الحركات والأحزاب التي قادت النضال من أجل تأسيس دول وطنية مستقلة متأثرين بالثقافة الغربية لاسيما البريطانية والفرنسية؛ كان الساعون للتغيير متأثرين، إن لم يكونوا مدفوعين، من قوى غربية أمريكية بالأساس، بعد أن حلت الولايات المتحدة الأمريكية محل الإمبراطوريتين الآفلتين؛ البريطانية والفرنسية.
لم تؤد التغييرات التي تمت في النظم السياسية العربية في العام 2011 إلى تأسيس نظم ديمقراطية تشبه نظيراتها في سويسرا أو فرنسا أو حتى بولندا أو المجر.
لقد ادّعى المسئولون الأمريكيون أن العراق سيكون «دُرَّة» للديمقراطية في المنطقة. وبدلًا من أن تكون العراق درة للديمقراطية أصبحت درة للطائفية السياسية في أبشع صورها.
لقد ذهب صدَّام ونظامه على يد الاحتلال الأمريكى ليحل محله نظام شديد التعصب للطوائف؛ وذهبت نخبة تكريت السنية لتخلفها نخبة شيعية وكردية. ودعمت الولايات المتحدة نورى المالكى وهو باليقين ينافس «صدَّام» في سلطويته. واتسمت كل الانتخابات البرلمانية التي جرت منذ الاحتلال الأمريكى بالتصويت على أسس طائفية وعرقية.
وعندما أُجريت انتخابات برلمانية في تونس ومصر وليبيا، حظى «أعداء» الديمقراطية الغربية بالمراكز الأولى، ووجدوا دعمًا غير محدود من الإدارة الأمريكية. ومن ثَم، شرع هؤلاء المنتصرون-الذين خلفوا النظم الموسومة بالسلطوية- في ترسيخ القواعد التي تسمح لهم بالاستمرار في السلطة إلى الأبد.
وقد تساوى في ذلك ذوو التوجهات الإسلامية، مثل راشد الغنوشى في تونس ومحمد مرسي في مصر؛ مع ذوى الاتجاهات اليسارية مثل المنصف المرزوقى في تونس وحمدين صباحى في مصر؛ ومع أصحاب الرؤى الليبرالية أمثال مصطفى بن جعفر في تونس ومحمد البرادعى في مصر.
من المؤكد أن هؤلاء جميعًا، وغيرهم كثيرون، قد هاجموا «سلطوية» بن على والقذافى ومبارك والأسد وصدام وصالح، ودعوا للتحول نحو نظم ديمقراطية، عندما كانوا في المعارضة. وعندما وجد هؤلاء أنفسهم في مقاعد السلطة، تراجعوا عن خطابهم السابق، وأصبحوا أكثر سلطوية من حكامهم السابقين.
والحقيقة أن هذه المواقف لم تأت من ذوى الاتجاهات الإسلامية فحسب، بل من معظم، إن لم يكن كل، الاتجاهات المعارضة سابقًا. لقد صاغت هذه القوى نظمًا انتخابية تسمح لها بالفوز بأكبر عدد من المقاعد في المجالس التشريعية التي أعقبت تغيير النظم التونسية والمصرية والليبية.
ففى تونس، أُجريت انتخابات للمجلس التأسيسى وفقًا لنظام انتخابى أعطى الأولوية لحركة النهضة التي عقدت تحالفًا مع حزب معروف باتجاهاته اليسارية وآخر يقدم نفسه باعتباره حزبًا ليبراليًا، وذلك لتقسيم إرث بن على وحزبه الدستورى. ومن ثم، حظى النهضة بالمنصب الأكثر أهمية وهو الوزير الأول، بينما حظى اليسارى العتيد المنصف المرزوقى بمنصب رئيس الجمهورية محدود السلطات، وشغل مصطفى بن جعفر، زعيم الشريك الثالث، منصب رئيس المجلس التأسيسى، البرلمان المؤقت. وظنت هذه «الترويكا» أنها ستظل قابعة في السلطة التي ظفرت بها، ربما لحقبة تساوى حقبة بورقيبة وبن على معًا.
وفى مصر، تمت هندسة المرحلة الانتقالية بما يحقق مصالح حزب الحرية والعدالة ومن تحالفوا معه من السلفيين واليساريين والليبراليين، والذين توافقوا على اقتسام إرث مبارك، وحظى الإخوان بالنصيب الأكبر من الإرث.
وعندما فاز مرشح الحرية والعدالة بالمنصب الأعلى، اتبع سياسات شديدة السلطوية بلغت ذروتها في إعلان «دستورى» حصن فيه قراراته من أي طعن، في سابقة لم تشهدها مصر أبدًا منذ دستور 1923. ولم يتوقف بعض «الليبراليين» عن تأييدهم لمثل هذه الممارسات شديدة السلطوية، ماداموا كانوا جزءًا من السلطة. وقد تحول بعض مؤيدى مرسي وجماعته نحو المعارضة، عندما لم يحظوا بالنصيب المتوقع من الإرث؛ وليس اعتراضًا على قراراته شديدة السلطوية.
وفى ليبيا، حظى الإسلاميون وحلفاؤهم بالسيطرة على المرحلة الانتقالية؛ وعندما أجريت انتخابات لمجلس النواب الجديد، وفشل هؤلاء في الحفاظ على تصدر المشهد، رفضوا تسليم السلطة للمجلس المنتخب وقرروا الاستمرار في العاصمة طرابلس بمجلس انتهت مدته ولم تعد حكومته تتمتع بأى شرعية. وأصبحت في ليبيا حكومتان يتبع كل منهما برلمان، أحدهما شرعى والآخر انتهت مهمته. وبالرغم من الاعتراف الدولى بالحكومة الشرعية في طبرق، ظلت الحكومة غير الشرعية تمارس عملها، ولم تتحرك الدول الغربية التي تسابقت لإسقاط القذافى بالقوة، للقضاء على هذه الحكومة المارقة (هناك الآن حكومة السراج التي تحظى بدعم دولى وسط معارضة من حكومتى طرابس وطبرق).
يثبت ذلك أن النخب السياسية العربية «المعارضة» تتشدق بالديمقراطية وتتغنى بالقيم الديمقراطية وتنتقد النظم «السلطوية» التي تقيِّد الحريات وتضيق على المعارضة وتنتهك حقوق الإنسان وتتدخل في الانتخابات وتزيف إرادة الناخبين ولا تحترم الدستور والقانون، ما دامت هذه النخب في المعارضة. وعندما تصبح هذه النخب في السلطة فإنها تحاكى القوى التي كانت تعارضها، بل تتفوق عليها في شراسة سلطويتها، باسم «الثورية» و«حماية الديمقراطية».
تعيد هذه الأحداث إلى الأذهان أهمية الثقافة السياسية المعززة أو الداعمة للديمقراطية في ترسيخ النظم الديمقراطية. فلا ريب أن من المستحيل تأسيس نظم ديمقراطية مستقرة دون ثقافة سياسية داعمة للديمقراطية. ومن ثم، كان من اليسير أن تتحول دول مثل بولندا والمجر وبلغاريا إلى نظم ديمقراطية شهدت في سنوات قليلة تداولًا سلميًا سلسًا للسلطة بين أحزاب متنافسة متباينة التوجهات.
ومن ناحية أخرى، شهدنا في دولنا العربية رفضًا ومقاومة من قبل من ادَّعوا السعى لترسيخ الديمقراطية لترك السلطة إلا بالقوة. علينا أن نعترف بضعف الثقافة السياسية الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية وبين النخب السياسية الحاكمة والمعارضة.
يظن الحزب أو الأحزاب المنتصرة ذات مرة أن من حقها الاستمرار في السلطة إلى الأبد، وتقوم بالتخطيط لذلك متذرعة بالشرعية التي حظيت بها ذات مرة وليس على الدوام. ويظن هؤلاء أن التداول السلمى للسلطة يتوقف عندما يصلون إلى السلطة. وربما ظن بعض هؤلاء أن من حقهم أن يظلوا في السلطة مدة مماثلة على الأقل لمدة من سبقوهم في الحكم.
لذلك فمن المؤكد أن الطريق لا يزال طويلًا حتى يتم تأسيس نظم ديمقراطية حقيقية تحترم الدستور والقانون؛ وتجرى بها انتخابات حرة تخلو من الثغرات من قبيل النظم الانتخابية المتحيزة وشراء أصوات الناخبين إلى جانب التدخل الحكومي؛ وتحتفظ فيها المجالس النيابية المنتخبة بسلطة تشريعية كاملة؛ ويتمتع فيها القضاء بالاستقلال التام؛ وتُحترم فيها حقوق الإنسان؛ ويتاح فيها للأقلية حق التعبير عن وجهات نظرها والسعى للوصول إلى السلطة من خلال إرادة الأغلبية؛ والالتزام بالتداول السلمى للسلطة؛ والإصغاء إلى الرأى العام؛ وغير ذلك من سمات النظم الديمقراطية.
ويعيد ذلك أيضًا إلى الأذهان المقولات السابقة حول المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية من قبيل وجود نسبة معقولة من التعليم والوعى بين المواطنين، وتوافر مستوى معيشة مقبول لدى أغلبية المواطنين، ودرجة معقولة من العدالة الاجتماعية، وتوافر طبقة وسطى عريضة تعتنق القيم الديمقراطية، وشيوع قيم التسامح وقبول الاختلاف واحترام وجهات النظر المخالِفة ورفض فكرة احتكار الحقيقة. ومن الواضح أن كثيرًا من هذه السمات أو المتطلبات لم تتوافر بعد في معظم، إن لم يكن في كل المجتمعات العربية.
ومن ثم، قد تحدث اجتهادات مقدرة في صياغة دساتير ديمقراطية تشبه دساتير الدول العريقة في ديمقراطيتها، وقد تصاغ نظم انتخابية متقدمة في عدد من الدول العربية، وقد تتأسس عشرات الأحزاب السياسية وآلاف منظمات المجتمع المدنى والصحف والقنوات والمواقع؛ لكن ذلك كله لن يؤدى خلال فترة قصيرة إلى إقامة نظم ديمقراطية راسخة. ومرد ذلك إلى عدم توافر المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية والتي تتطلب وقتًا ليس بالقصير.
الحقيقة الغائبة
لقد أثبتت أحداث السنوات الخمس الأخيرة في المنطقة العربية أن الحديث المطرد عن أهمية الديمقراطية لم يكن في محله، ما دامت الثقافة السياسية ليست معززة أو داعمة للديمقراطية. ولا يعد هذا انتقادًا للديمقراطية ولا دعوة لتأجيلها، كما قد يظن البعض، ولكن يمثل ذلك دعوة لإعادة الاعتبار لمقولات قدمها علماء وباحثون في العلوم السياسية وتم التعامل معها باستخفاف أو دون اكتراث أو تعرضت لانتقادات لاذعة من قِبل بعض الباحثين الآخرين المدفوعين في معظم الأحيان بدوافع أيديولوجية؛ ظنًا منهم أن في ذلك مبررًا لتأجيل التحول نحو الديمقراطية.
كان كل من «جابرييل ألموند» و«سيدنى فيربا» في مؤلفهما الشهير عن الثقافة السياسية قد تحدثا عن ثلاثة أنماط من الثقافة السياسية. وقد أطلق ألموند وفيربا على النمط الأول نمط «الثقافة الأولىة أو التقليدية»، حيث لا يهتم المحكومون بالنظام السياسي على الإطلاق. أما النمط الثانى فقد سمياه نمط «الثقافة السياسية الرعوية»، حيث يهتم المحكومون بالقرارات التي يتخذها النظام السياسي دون الاهتمام بطريقة صنع هذه القرارات والمشاركة في صنعها، أو ما يعرف بجانب المخرجات الصادرة عن النظام السياسي تجاه المواطنين. ولعل إطلاق سمة «الرعوية» على هذا النمط قد جاء ليعبر عن نظرة المواطنين لأنفسهم باعتبارهم رعايا للحكام أو للنظام السياسي. وأطلق ألموند وفيربا على النمط الثالث والأخير نمط «الثقافة الديمقراطية» أو «ثقافة المشاركة»، حيث يهتم المحكومون بكل من مدخلات النظام السياسي، أي طريقة صنع القرارات، بنفس قدر اهتمامهم بجانب المخرجات، أي بالقرارات الصادرة عن النظام السياسي.
ومن ثم، تسود الثقافة الأولىة في المجتمعات شديدة التقليدية، وتنتشر الثقافة الرعوية في المجتمعات الانتقالية أو المتوسطة، بينما تسود الثقافة الديمقراطية أو ثقافة المشاركة في المجتمعات الحديثة. ويترتب على ذلك أن تكون المجتمعات التقليدية ذات نظم شديدة السلطوية، والمجتمعات الانتقالية ذات نظم شبه سلطوية بسبب ثقافتها السياسية الرعوية، بينما تكون المجتمعات الحديثة ذات الثقافات المعززة للمشاركة السياسية هي المجتمعات الديمقراطية.
لقد ظن البعض أن عشرات السنوات من التحديث في المنطقة العربية قد أدت إلى القضاء على الثقافتين التقليدية أو الأولىة والرعوية وفقا لألموند وفيربا، أو على الأقل على معظم ما تبقى منهما. واعتقد هؤلاء أن النمو المطرد في معدلات التعليم العام والجامعى، لا سيما لدى الفتيات، والنمو الحضرى وتزايد نسب العاملين في القطاعات الحديثة، مثل الصناعة والخدمات، على حساب القطاعات التقليدية مثل الزراعة والرعى والصيد، وانتشار الإعلام الجماهيرى وشبكات التواصل الاجتماعى والهجرة الداخلية والخارجية والاحتكاك في المسبوق بالعالم المتقدم وغير ذلك؛ قد أدى إلى تأسيس مجتمعات حديثة تحظى فيها الثقافة المعززة للديمقراطية بمرتبة متقدمة.
وقد ثبت أن هذا الظن لم يكن في محله؛ وقد جاءت التجربة العراقية أولًا لتثبت خطأ وجهة النظر هذه. فلقد ثبت أن صدام ونظامه الذي وسم بالسلطوية الشديدة، وخلفه نظام لم يختلف عنه كثيرًا، لم يفقه بعض السمات التي لا تتسق مع النظم الديمقراطية. ووجد البعض في تأسيس النظام العراقى الجديد تحت إشراف المحتل الأمريكى ذريعة لتبرير الفشل في إقامة نظام ديمقراطى يحظى بالتوافق. وأرجع البعض الآخر الفشل إلى قسوة نظام البعث في عهد صدام، في حين بَّرر آخرون ذلك بتأثير العامل الطائفى «الشيعة والسنة» والاثنى أو العرقى «العرب والأكراد».
لقد تمت صياغة دستور عراقى يؤسس لنظام ديمقراطى بعد عقود من النظم غير الديمقراطية التي تحكّم خلالها حزب وحيد وشخص واحد أو نخبة قليلة العدد في مفاصل النظام السياسي العراقى. وعندما بدأ تطبيق هذا النظام الديمقراطى من حيث الشكل، اكتشف العراقيون وغيرهم أن أعداء صدام ومعارضيه ليسوا أقل سلطوية منه ومن مناصريه. فقد تم تفصيل نظام انتخابى يحقق للنخب الجديدة أفضل نتيجة ممكنة في كل من الانتخابات البرلمانية والمحلية. وتم تأسيس الأحزاب على أسس طائفية، وتم تقسيم المناصب الأساسية في النظام الجديد على أسس طائفية. أكثر من هذا، تم تأسيس ميليشيات مسلحة على أسس طائفية. ولم يختلف زعيما الشيعة والأكراد، نورى المالكى ومسعود برزانى، عن صدام في النهج التسلطى. فقد سعى كل منهما إلى الاستمرار في السلطة بأى ثمن، في بغداد وفى أربيل. وقاوم المالكى كل محاولات مغادرته منصبه إلى أن أجبر على ذلك؛ بينما انتهت مدة برزانى في قيادة إقليم كردستان ولا يزال في منصبه يسعى لتعديل، أو لصفقة، يسمح له بالاستمرار.
ومن ثم، لا ينبغى المبالغة في التفاؤل بقرب انبثاق نظم ديمقراطية في المنطقة العربية، وهى نفس الظاهرة التي حدثت إبان التجربة «الليبرالية» في بعض النظم العربية في حقبة مابين الحربين العالميتين.
فمن ناحية، يضطلع الطرف، أو الأطراف، الذي يسيطر على المشهد بُعيد القضاء على النظام القديم بالدور المحورى في وضع قواعد النظام الجديد، بما يعزز سيطرته بالصورة نفسها التي هوجم النظام السابق بسببها.
وقد تجلت هذه النزعات التسلطية في عدة سمات كان من أهمها:
أولًا- تعطيل العمل بالدستور القائم أو إلغاؤه ومخالفته بذريعة «الثورة»؛ وترسيخ «الفوضى»، والقضاء على جميع مؤسسات الدولة بذريعة انتمائها للنظام السابق.
ثانيًا- ترتيب المرحلة الانتقالية بما يحقق أهداف القوى الساعية لوراثة النظام السابق؛ عن طريق إصدار إعلانات دستورية مؤقتة؛ وإجراء انتخابات لمجالس تأسيسية أو وطنية أو برلمانية، وفقًا لقوانين انتخابية تم تفصيلها على مقاس هذه القوى وحلفائها، بما يمكنها من السيطرة على هندسة النظام السياسي الجديد.
ثالثًا- صياغة أسس تشكيل ما سمى بالجمعية أو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الجديد، بما يضمن لهذه القوى السيطرة على الأغلبية في هذه الهيئة، ومن ثم صياغة الدستور بما يتفق مع رؤاها، ويسمح لها باستمرار السيطرة على النظام لأطول فترة ممكنة.
رابعًا- صياغة جميع القوانين المحددة للمسار السياسي في المستقبل (مثل قوانين الأحزاب السياسية والانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية والعزل السياسي) ؛ من منطلق إخلاء الساحة السياسية لهذه القوى الساعية لوراثة النظام القديم.
خامسًا- التنسيق مع القوى الغربية «الليبرالية»، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، بما يضمن تأييدها لجميع هذه السياسات والإجراءات غير المتسقة مع القيم الديمقراطية. وتشابه هذا السلوك الأمريكى مع نظيره البريطانى والفرنسى في فترة ما بين الحربين العالميتين.
سادسًا- السعى لترسيخ فكرة «الحزب المسيطر»، مع السماح بوجود أحزاب سياسية أخرى، حيث لم يعد من المقبول حظر الأحزاب السياسية، مع تحديد سقف لا يمكن لهذه الأحزاب الأخرى تجاوزه؛ في تكرار سافر لظاهرة كيلت لها الاتهامات من جميع الأطراف المعارضة إبان وجود النظم السياسية «السلطوية» أو «المستبدة»، كما كان يحلو لهؤلاء الحكام الجدد نعتها.
سابعًا- التدخل السافر أحيانًا والمستتر معظم الأحيان في العملية الانتخابية التي تتم تحت سيطرة القوى الوارثة لأجهزة الدولة؛ واستخدام نفس الذرائع التي كانت تستخدمها «النظم السلطوية»، عند الرد على اتهامات تزييف إرادة الناخبين.
ثامنًا-إدارة الدولة بمنطق إدارة الغنائم التي تم الاستيلاء عليها في الحروب. وقد اتضح ذلك في التعامل مع المال العام باعتباره ملكية خاصة، وفى التصرف في المؤسسات الحكومية من قبل رؤسائها باعتبارهم مطلقى الصلاحيات ولا رقابة عليهم من أي نوع، اعتقادًا من معظم هؤلاء بأن الشعب قد منحهم تفويضًا لإدارة شئونه بالطريقة التي يرونها.
السؤال الصعب
هل يعنى ما سبق أن المجتمعات العربية تمثل استثناءً فيما يتعلق بالتحول نحو الديمقراطية؟
ثمة ما يبرر طرح هذا التساؤل، حيث نجحت دول متعددة خارج المنطقة العربية في ترسيخ نظم ديمقراطية مستقرة، تحترم سمات هذه النظم ولا سيما احترام الدستور والقانون، واحترام إرادة الأغلبية، والسماح للأقلية بإبداء وجهات نظرها، ووجود برلمان منتخب انتخابًا حرًا يحظى بسلطة التشريع نيابة عن الأمة، والتعددية الحزبية غير المقيدة، والتداول السلمى للسلطة، واحترام الحريات العامة والفردية، وحرية الصحافة والإعلام، واحترام حقوق الإنسان.
أما في المنطقة العربية، فلم تؤد حالات التغيير في بعض النظم السياسية العربية في السنوات الأخيرة إلى تغيرات جوهرية في بنية النظم السياسية بما يجعلها نظمًا تتجه نحو مرحلة «الرسوخ الديمقراطى»، كما ظن البعض.
وثمة من يعتقد أن «الجينات العربية» عصية على الديمقراطية، وأن العرب يتسمون بسمات تتناقض مع القيم الديمقراطية. ويعود البعض أحيانًا إلى مقولة «ابن خلدون» حول أن العرب أصعب الأمم انقيادًا لبعضهم البعض للغلظة والأنفة والمنافسة في الرياسة فقلما تجتمع أهواؤهم. واستثنى ابن خلدون من ذلك النبى أو الولى، حيث يقبل العرب الانقياد لهما. وبالرغم من أن البعض قد يجادل بأن ابن خلدون كان يقصد عرب البادية وليس عرب المدن والحواضر العربية الراهنة التي تزخر بناطحات السحاب ومظاهر الحياة الحديثة؛ فمن الواضح أن قيم البداوة العربية لا تزال تضطلع بالدور الأساسى في المجتمعات العربية جميعها، مع اختلاف درجة التأثير.
مابعد الربيع العربي
لقد ظن البعض أن الإطاحة بقيادات النظم السياسية في تونس ومصر وليبيا واليمن ستؤدى إلى انبثاق نظم سياسية ليبرالية على النمط الغربى، تصوغ دساتير يشارك في صياغتها ممثلو جميع الاتجاهات السياسية والمكونات الاجتماعية، وتعلى من فضيلة احترام الدستور والقانون، وتجرى انتخابات عامة ومحلية دون تدخل من السلطة الحاكمة، وتسمح بالتعددية الحزبية، وتعلى من قيمة احترام حقوق الإنسان، وتحترم حق الأقلية في التعبير عن وجهات نظرها والسعى لكسب التأييد لها.
لم يكن الحكام الجدد الذين سيطروا على مقدرات النظم السياسية بعد بن على ومبارك والقذافى وصالح، أكثر التزامًا بسمات الديمقراطية من سابقيهم، ولم يكن قادة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أكثر وفاءً للقيم الليبرالية من أسلافهم في فترة ما بين الحربين العالميتين.
فمن ناحية المعارضين للنظم «السلطوية» السابقة؛ شرع الحكام الجدد في تقسيم «الغنائم» التي ظنوا أنها قد آلت إليهم. ولعل إطلاق أحدهم لفظ «الفلول» على أركان النظام السابق في مصر، بالرغم من كونه كان من قيادات هذه الفلول في حقبة سابقة، كان يحمل دلالات بأن قيادات النظام السابق كانوا قادة جيش لقي الهزيمة، وأن قادة الجيش «المنتصر» سوف يقتسمون الغنائم. وقد اعتقد البعض أن الجيوش التي لقيت الهزيمة هي «جيوش من الكفار»، أو من الأعداء الذين يجب قتلهم أو أسرهم ومصادرة أموالهم وأموال عائلاتهم. ومن ثم، تشكلت تحالفات غريبة بين قادة «الكتائب» المنتصرة. ففى تونس، تحالفت حركة النهضة إسلامية التوجه مع حزب المؤتمر اليسارى وحزب التكتل الليبرالى، رغبة في اقتسام إرث بن على والحزب الدستوري؛ وشكلوا معًا «الترويكا» التي حكمت تونس بعد إطاحة بن على. وكان تقسيم الغنائم شديد الوضوح. فقد تسلم المعارض الماركسى ل«بن على» المنصف المرزوقى منصب رئيس الجمهورية ذى الصلاحيات المحدودة، وتسلم قياديان من حركة النهضة، حمود الجبالى ثم على العريض، منصب رئيس الحكومة الأكثر أهمية في النظام الجديد؛ وحظى مصطفى جعفر من حزب التكتل «الليبرالى» بمنصب رئيس البرلمان. وقد كان من اللافت للنظر أن يبدو الرئيس التونسى المؤقت محدود الصلاحيات وكأنه رئيس منتخب في الولايات المتحدة أو روسيا الاتحادية أو فرنسا. ومرد ذلك إلى شعوره بالحصول على نصيب ضخم من غنائم بن على.
وفى مصر، تحالف الإسلاميون والناصريون والليبراليون والماركسيون وغيرهم لاقتسام الغنائم. فقد كوَّن حزب الحرية والعدالة، حزب الإخوان المسلمين، مع الأحزاب والشخصيات الناصرية واليسارية والليبرالية و«الفوضوية» والمستقلة قوائم انتخابية واحدة في الانتخابات البرلمانية التي أعقبت سقوط نظام مبارك، بعد أن تمت هندسة النظام الانتخابى وتقسيم الدوائر الانتخابية بالأسلوب الذي يحقق للحرية والعدالة وحلفائه أكبر قدر ممكن من مقاعد البرلمان.
وعندما فُتح الباب أمام الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، سعت الأطراف التي تحالفت في الانتخابات البرلمانية إلى الظفر بالمنصب المحورى في النظام السياسي المصرى، والذي سيخوِّل للشخص الفائز به، وللتيار أو للحزب الذي ينتمى إليه، الحصول على القدر الأكبر من الغنائم. فقد تعدد مرشحو الأحزاب والقوى التي تحالفت في الانتخابات البرلمانية مثل حزب الحرية والعدالة- محمد مرسي، وحزب الكرامة- حمدين صباحى، إضافة إلى مرشحين إسلاميين آخرين مقربين من الإخوان المسلمين مثل عبدالمنعم أبو الفتوح القيادى السابق في الجماعة ومحمد سليم العوا وحازم أبو إسماعيل، وحزب التجمع، هشام بسطويسي؛ كما ترشح عدد من المستقلين.
كانت هذه الشخصيات، والأحزاب والقوى السياسية الداعمة لها، تتطلع نحو المنصب الأثير، كى تجلس على عرش آمون ومقعد الفراعنة العظام والبطالمة والرومان والعرب والطولونيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك؛ وكى يحظى بمكانة محمد على باشا الكبير وأبنائه وأحفاده، لاسيما إبراهيم وإسماعيل وعباس حلمى وفؤاد وفاروق؛ ولكى يخلف زعماء يوليو نجيب وناصر والسادات ومبارك. وليتنقل بين قصور أسرة محمد على في عابدين والقبة ورأس التين والمنتزه والعروبة وغيرها، باعتبارها جزءًا من الغنائم.
وعندما انتهت الجولة الأولى بالإعادة بين مرشح الإخوان المسلمين ومرشح النظام القديم، عاد التحالف مرة أخرى بين الطامحين والطامعين في الغنائم إلى الالتئام. واجتمع هؤلاء حول مرشح الإخوان المسلمين ليعلنوا تأييده في اجتماع شهير، طمعًا في الحصول على قدر من الغنائم. ولا شك في أن من تجمعوا حول مرشح الإخوان المسلمين كانوا يعلمون بتوجهات هذه الجماعة ولا سيما الناصريين والليبراليين منهم.
وعندما أُعلن فوز مرشح الإخوان المسلمين، سارع هؤلاء إلى الفرعون الجديد مطالبين بأنصبتهم من الغنائم، فلما لم يجدوا لدى ساكن قصر العروبة الجديد استجابة، عادوا سريعًا سيرتهم الأولى، ليعارضوا الرئيس الذي أسهموا في فوزه، مطالبين بسقوطه. وعادت مرة أخرى نغمة «تشكيل مجلس رئاسى» برئاسة المرشح الدائم لرئاسته، دون أن يخوض معركة انتخابية، محمد البرادعى الموسوم بالليبرالية، والذي يشك من فرط ليبراليته أنه أحمد لطفى السيد الجديد.
وقد اتبع الرئيس «المدنى» المنتخب سياسات شديدة السلطوية، تفوق نظيراتها لدى فؤاد وفاروق وناصر والسادات ومبارك مجتمعين؛ وتتجاوز ما أقدم عليه إسماعيل صدقى في مطلع ثلاثينيات القرن الماضى مما جعله مضرب الأمثال في السياسات التسلطية. لم يجرؤ أي حاكم مصرى منذ تأسيس الدولة المصرية المستقلة عام 1922 على إصدار ما سمى بالإعلان الدستورى، والذي جعل قرارات رئيس الجمهورية السابقة واللاحقة غير قابلة للطعن.
وكما كانت بريطانيا تغض الطرف عن عدم احترام القيم الديمقراطية في مصر الملكية، بل أقدمت على إجبار الملك بالقوة على تشكيل حكومة بعينها خدمة للمصالح البريطانية؛ لم يجد المسئولون الأمريكيون والأوروبيون أي مبرر في انتقاد هذه السياسات شديدة السلطوية، ولم تجد فيها أي انتهاك لحقوق الإنسان، ولم تعتبرها مناقضة للقيم الليبرالية التي قيل إن «الربيع العربى» المزعوم سيبثها في هذه المنطقة التي استعصت طويلًا على التحول نحو الديمقراطية.
دروس مستفادة
يكمن الدرس الأهم من التغيرات التي رانت على بعض النظم العربية في السنوات الخمس الأخيرة أنه لا سوق رائجة للديمقراطية وللقيم الليبرالية في المنطقة العربية على المدى المنظور لعدد من العوامل أهمها:
أولًا- لا تختلف القيم التي يتبناها معارضو النظم العربية عن نظيراتها لدى قيادات هذه النظم.
ولقد ثبت أن المعارضة تتبنى القيم الليبرالية قبل الوصول إلى السلطة فقط، وعندما تصل إلى السلطة تتبنى سياسات تتشابه، إن لم تتفق، مع نظيراتها لدى النظم السابقة في سلطويتها.
ويعنى ذلك أن الثقافة السياسية للنخب البديلة لا تختلف عن نظيرتها لدى النخب الحاكمة.
ثانيًا- لا يعتبر تأسيس نظام ديمقراطى أمرًا ذا أولوية لدى أغلبية المواطنين العرب.
فمن الواضح أن هذا الأمر يقتصر على نخبة محدودة من قاطنى العواصم والمدن الكبرى المتأثرين بالثقافة الغربية.
ولا يحظى هؤلاء عادة بشعبية يعتد بها لدى المواطنين العاديين، الأمر الذي يعنى فشلهم في أي انتخابات حرة وديمقراطية.
ثالثًا- ليس لدى الليبراليين العرب أي غضاضة في التغاضى عن القيم الليبرالية إذا كان ذلك يصب في مصلحتهم.
فهم ليبراليون ماداموا في المعارضة، يتحدثون صباح مساء عن احترام حقوق الإنسان والتداول السلمى للسلطة.
وفى حالة الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، تتعدد ذرائع السياسات التسلطية التي تتناقض مع الديمقراطية.
رابعًا- ليس لدى الدول الغربية «الليبرالية» أي حرص على ترسيخ النظم الديمقراطية في المنطقة العربية.
ولا مشكلة لدى هذه الدول في تأييد نظم شديدة الاستبداد أو السلطوية، ما دامت النظم الغربية راضية عنها، وتحقق مصالح هذه الدول.
ولقد أبت الدول الغربية إلا أن تكمل القضاء على ما تبقى من ليبيا بعد سياساتها المتناقضة منذ غزوها وإسقاط القذافى.
فقد أعادت الدول الغربية تجربة الانتداب سيئة السمعة، من خلال تنصيب حكومة وفرضها بالقوة على الجميع، دون أي شرعية إلا شرعية التأييد الغربى غير المحدود، في إعادة لمشهد اعتاده العرب في حقبة ما بين الحربين العالميتين.
ومن ثم، ليس على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أن تتحدث عن الاستثناء العربى، لأن هناك استثناءً غربيًا، إن جاز التعبير، في التعامل مع العرب. لقد كانت الدول الغربية حريصة على ترسيخ نظم ديمقراطية على النمط الغربى في بولندا والمجر وبلغاريا وغيرها من دول شرق أوروبا في تسعينيات القرن الماضي؛ لكن من الواضح أن هذا الأمر ليس واردًا في جدول الأعمال الغربى.
أكثر من هذا، لاتزال الدول الغربية تتعامل مع الدول العربية بمنطق الدول الخاضعة للانتداب أو للوصاية، وهو ما تثبته التجربتان العراقية والليبية، وربما السورية في حالة سقوط نظام الأسد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.